النسيان كلمة تحيل إلى إحدى المجردات التي نتذكرها عندما تضعف ذاكرتنا، ونحمد لها ما تفعله فينا عندما تطفئ لهيب الحزن الذي يأخذ في التهامنا بعد فقد الأحبة الذين يحرقنا فراقهم، ونظل أسرى لحريق كارثة فقدهم، إلى أن يتسلل النسيان شيئاً فشيئاً، مـخاتلاً، مراوغـاً، يحـمل مـعه ممحـاة يمـررها على ما هو بارز من ملامـح الألم والحـزن، فلا يتركها إلا بعد أن يمحو آثارها، وتمر به الأيام، أو يمر هو بعجلة الزمن التي تسهم في تعميق أثره، فإذا بنا ننسى الذين كنا نتصور أننا لا يمكن أن ننساهم، ويتقلص بحجم الحزن الذي يبدأ عملاقاً كأنه المردة، فإذا به يصغر ويصغر بفعل النسيان إلى أن يصبح ذكرى، قد تصيبنا بالأسى، وقد تثير فينا الحنين، لكنها تظل ناعمة كأوراق الزهور التي نضعها على القبور التي ندفن فيها أحبابنا، ولذلك نقول إن النسيان هو الدواء الذي يشفي به الزمن جراحنا، والحنان الذي يمسح به دموعنا، واللص الذي يسرق منا، أحياناً، ما لا نود أن نتركه، أو ما نسعى لأن نحول بينه والنسيان ولماذا لا أقول إنني أتخيل النسيان، أحياناً، على أنه جماع من النقائض، سالبة وموجبة، نعمة ونقمة· تداعت هذه الكلمات على ذاكرتي، وأنا أطالع قصيدة محمود درويش ''هذا هو النسيان'' من ديوانه ''لا تعتذر عما فعلت'' وقد قرأت القصيدة على طريقتي وتوقفت منها، أول ما توقفت، على تشبيه النسيان بكوابح تكبح الزمن السريع على إرشادات المرور، وتغلق الساحات، وأضفت إلى ذلك أنه بقع من الظلمة أشبه بورد النيل الذي لا يكف عن التكاثر والتوالد إلى أن يغطي سطح الماء، فيحجبه عن الأعين، فالنسيان نقيض التذكر الذي يحل محله فتبهت شعلة الذكرى إلى أن تنطفئ، فتختفي الذكرى في غياهب النسيان الذي هو صديق الزمن المتطاول، وحليف الشيخوخة التي تصيبنا، حين نكبر، دون أن ننتبه، ودون أن نقاومها، أو حتى نعرف تأثيرها فينا إلا إذا تطلعنا إلى أنفسنا في مرايا الذاكرة التي نكتشف، عندئذ، أنها قد صدئت وذهب صقالها، فما عادت تتيح لنا أن ندخل إلى أقاليمها التي حال لونها· ولذلك فالنسيان أغنية مكررة كما تقول قصيدة محمود درويش، أو هو متحف خال بارد، يتركنا أسرى المفارقة التي يصفها بيتا محمود درويش: هذا هو النسيان أن تتذكر الماضي ولا تتذكر الغد في الحكاية·