قال أبو الطيب المتنبي: لسان الفتى نصف ونصف جنانه فلم يبق إلا صورة اللحمِ والدمِ وقديماً قالت العرب: “الإنسان مخبوء بين أصغريه: قلبه ولسانه”. وأما اليوم فماذا نقول؟ إن جنان العربي مضطرب، وهو بين الخوف والترقب، تراه يضع يده على صدره أو على خدّه.. بانتظار ما تأتي به الأيام التي غالباً ما تحمل لنا المفاجآت.. غير السارة. أما اللسان العربي اليوم، فهو على الأقل واقع في مأزق. وإذا فهمنا من اللسان بأنه النطق، وبالتالي اللغة، وما يحمله النطق واللغة من تواصل وثقافة، فالمسألة تطرح على أكثر من وجه. يقول آدم ميتز في كتابه “حضارة العرب في القرن العاشر للميلاد ـ الرابع للهجرة” إن العربي (المسلم) كان في عصر تفكك الدولة الإسلامية في نهايات هذا القرن، وابتعاد الأطراف عن المركز (في بغداد) واستقلال كل حاكم بولايته.. كان المسلم يستطيع أن يتجول في أرجاء العالم المعروف آنذاك، من الصين والهند الى أفريقيا، ومن الشمال الى الجنوب، مزوداً بلسانه العربي من حيث أن العربية كانت حينذاك لغة الثقافة ولغة التبادل التجاري في هذا القرن، ومزوداً بهويته الدينية (الإسلام). وهكذا، وعلى الرغم من التفكك السياسي، كان ثمة ما يلمّ ويجمع: اللغة والدين. هذه هي نظرة آدم ميتز على كل حال، للقرن الرابع للهجرة، العاشر للميلاد، الذي يسميه عصر النهضة الإسلامية والعربية قياساً بمصطلح عصر النهضة في أوروبا، التي شهدت في عصر نهضتها ثمار التلاقح بين ثقافة اليونان والرومان القدماء، والثقافة الحديثة في أوروبا.. على هذا المنوال شهد القرن الرابع للهجرة نضوج ثمار التلاقح الفكري، الفلسفي والعلمي (بشكل خاص) بين الحضارة اليونانية الكلاسيكية بما فيها من فلسفة ورياضيات وعلوم من جهة، والحضارة الفارسية بما فيها من فنون وآداب، والحضارة الإسلامية الفتية. حسناً.. وماذا بعد؟ وماذا الآن؟ تكاد تختنق اللغة العربية بحمولتها، وهي ترى نفسها بعيدة عن مصطلحات التكنولوجيا والعلوم والتقنيات المعاصرة، حتى أن آلة بسيطة كالبيسيكليت مثلاً، قد لا تجد لأجزائها ما يريح في التسميات، فكيف بالآلات العلمية والاختراعات المتطورة المعقدة في الطب والفلك والأسلحة والمختبرات وما الى ذلك؟ ثم أين هي من اللغة الإشارية اليوم في الإنترنت والكمبيوتر والعقل الصنعي؟ هذا من ناحية، أما لناحية التواصل السياحي والتجاري فالأمر مريب ويدعو للتأمل.. فأنت لا تستطيع التفاهم والتعامل بالعربية مع الكثير من سكان العالم العربي، حتى مع أولئك المؤصلين عربياً منهم، إلا بالإنجليزية. هذا ما شعرت به وأنا في فندق إحدى الدول العربية العريقة بتاريخها.. أنا الذي يعرف العربية والفرنسية وبعد الفارسية.. وجدت نفسي في صالة هذا الفندق، كالأبكم، ولا أحد يفهم عليّ ما أقول.. كلهم يتكلمون الإنجليزية.