أن نحجب الأفكار، وأن نضعها في أقفاص التزمت، وأن نهيل عليها نفايات التاريخ وأن نقصقص أجنحتها، وندعها تمشي على الأرض اليباب، فإننا نعيد الإنسان إلى حالة البؤس والغبن، ونجعله يمضي إلى الحياة بعيون تغشيها غاشية الحزن التاريخي وعقد النقص والدونية، الأمر الذي يجعله بلا هوية ولا منطق، ولا أجنحة تمنحه التحليق في فضاءات الله، وقد منحنا العلي القدير العقل لكي نفكر ونتبصر ونتأمل قدرته الفائقة في صنع المعجزات، والذين يغلقون الأبواب والنوافذ، ويختبئون في الغرف المظلمة، هؤلاء تقاعسوا عن التفكير، وأكثر ما فعلوه أنهم جحدوا نعمة العقل التي منحها الله لعبادة، الله الذي خاطب نبيه موسى، وهو يتساءل عن قدرة خالقه، فقال له (... أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، هذا هو الحوار الأول بين المعبود وعبده، بينما نجد الجهلة يلعقون ريق العصبية، وينزفون من الغضب ما تشيب له الولدان، ويواجهون الحقيقة بالتزمت، ويجابهون الحق بالتعنت ويكظمون الغيظ والحنق، والحقد في وجه كل من يخالفهم الرأي، معتنقين فكرة المقدس والمحرم في كل ما يمس حياة الإنسان ومصيره ومستقبله متكئين على ثوابت باهتة ليس هي من الدين في شيء، وهناك نزوع قوي في دواخل هؤلاء يدفعهم إلى رفض الرأي الآخر، لأنهم يخافون زحزحة الأنا من مكانها، هي الأنا التي تربت على اللاءات الضخمة، والتي تحرم كل ما يكشف عورة الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها هؤلاء ضد حرية العقيدة، والتي هي جزء من قوة الإيمان بالعقل الذي ميز الله تعالى عباده عن سائر الكائنات، فعندما أراد نبي الله إبراهيم أن يستفهم عن سر الموت والحياة التي اختص تعالى هذه القوة لنفسه، قال إبراهيم لربه (... رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى? قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى? وَلَ?كِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى? كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً...) هذا رب العالمين قبل بالسؤال وحاور نبيه، ومن دون شطط أو لغط، أو احتقار لهذا العبد الضعيف، وهذا هو الدليل على سمة الاحترام للعقل، وعدم ترك الأسئلة التي تشغل العباد، دون إجابة تحت أي ذريعة أو حجة، أو مبرر، فلم يسكت الله إبراهيم، ولم يقل له نفذ ولا تسأل، بل كانت السمة الإلهية حاضرة، وهي احترام العقل البشري، لأنه من روح الخالق، ومن جلال قدرته التي وهبها لعباده، بينما نجد الشذاذ والقصر يحاصرون هذا العقل بحزمة مفاهيم وهمية، ويجعلونه مطية لخيالات تسكنهم هم ولا علاقة لها بالدين، ولا بمشيئة الله، هؤلاء الذين يجعلون العقول طيوراً في محبس الرفض لكل ما هو عقلي، ولكل ما هو إنساني، ويريدون العقل يمضي إلى الحياة، مثل الروبوت الصناعي يكنس حثالة ما تقذف به النفس الأمارة، من دون تدخل العقل البشري.