صباح المطر
بطون الشوارع ممتلئة بالمياه، الأشجار منتعشة راقصة بالقطرات العالقة على جذوعها وأوراقها وأغصانها، الثياب المبللة تعيدنا إلى طفولة لها سحر الماء وهو يداعب ملامحنا بإحساس غامض ملؤه اللذة البريئة، العيون ترى ما خلف الغيوم الحبلى، والبصيرة ترى ما خلف النقاط التي تركض خلف بعضها بعضا بانتظام مدهش، والروح تسافر إلى نبض القلب، والقلب يفتح كل شبابيكه على الحلم، والحلم يعود مبللا، والنفس تقترب من السماء أكثر، تدنو من دروبها أكثر، وتعانق أسرارها بحنوٍ آسر.
المطر يعيد تشكيلنا من جديد، يصوغ الطبيعة والبشر من جديد، يعطي الأصوات بعدها المائي، والوجوه عمقها الحيوي، والخطوة عزمها المتدفق، فنرى المدى يترقرق، ونكتب الشعر على صفحات الرذاذ، نرسم الهواجس على جيد غيمة، وننحت أسئلتنا بأساليب أخرى، المطر يجعلنا فلاسفة، يمنحنا دفء التأمل وسكون اللحظة، ويسكّن فينا السباق، يقدم لنا الحقيقة كاملة على طبق من ماء: لا شيء يستحق هذا السباق واللهاث، إلا بمقدار ما يحقق التلاحم مع أنغام أوتارنا الداخلية، وما يصحح مسارات خطواتنا، وما يضاعف خشيتنا من صاحب المطر.
المطر يغير كلامنا ويعطّره، يغذي مسامات العشق في حروفنا، نبوح بالحب من أجل الحب، ونمارس الحنان من أجل الحنان، والعطف لوجه العطف، يغسل تجهّمنا، يوسّع ابتساماتنا، ويزيد من ضحكاتنا، يحرضنا على فك قيود الطفل من اتزاننا المصطنع، ليعدوا في بساتين المرح، حيث الريح تحملنا إلى جهاتها الكثيرة، تكشط عن بشرتنا العبوس، وتجمّلنا بمساحيق مشتقة من ألوان الغيوم، وإطلالة الشمس من حضن غيمة دافئة.
المطر يقيم مهرجاناته دون إعلامنا، يوجه دعواته الأنيقة المرصعة بالألماس، يهطل فجأة، مرسلاً فِرق البهجة، وأوركسترا البياض، ليعزف سمفونية الاحتواء والعناق، ثم يتركنا متى أراد، ليبقى متداخلا في الذاكرة، فيحيلنا إلى رسامين بأجنحة، وعازفين بألحان وميض البرق، وكل منا يحتضن إبداعه الخاص، غير مكتوب على ورق، وغير مرسوم على قماش، بل على سطور الروح التي اغتسلت من درن التفاصيل الثقيلة للحياة.
صباح المطر سيدي، صباح المطر سيدتي، صباح الماء حبيبتي، صباح يجعل تحيته استثنائية في تموج صوتها، تحية مقبلة بنوايا ماء السماء، حيث يهتف للبذور كي تشق التربة لمعانقة الضوء، ليكون الصباح أجمل.
نهاركم جوهر المطر، وليلكم أحلام المطر، وما بين ليلكم ونهاركم، ما بين قطرة ماء وأختها، أي قطرة من دنيا المنى ووجدان الأمل.
أنور الخطيب alkatib50@yahoo.com