ما يشدني أثناء التجوال في المدن منظر رجال ونساء اللوحات الإعلانية، وهم يكدون ويتعبون في التصوير، وفي أجواء مختارة، وأماكن منتقاة من أجل صورة جميلة يحاول المعلن أن يسلب بها أموالاً زائدة من الزبائن، هؤلاء الصنف من الممثلين الصامتين، لا هم مشهورون مثل بقية الفنانين، ولا هم عارضو أزياء نجوم، يذكرونني دائماً بالممثلين في كتب ومجلات القصص المصورة والمسلسلة، والتي تبدو أنها اختفت من دنيا الجيل الجديد، هم معلقون بين الشهرة، وبين النسيان، مثلما هي صورهم المعلقة والعملاقة في الإعلان التجاري، تظل محط العين لأيام، ثم تطيرها عوامل التعرية، وعوامل السوق، فينسى ذاك الوجه الوسيم أو الجسد المتناسق في الزحام!
ليس مثل التعامل مع سواقي الأجرة في السفر، غير أن أظرفهم سواقو أجرة مصر ولبنان، هم الأكثر حكائية، بدءاً من السمسرة، ومعرفة مفاتيح كل الأمور، وانتهاء بالسياسة التي يكون نصيبها الكفر والتكفيريات، وسب كل شيء، فالسائق المصري يبدأ حكايته بعد جلوسك على مقعد سيارته الخلفي بالشكوى من ثقل حقيبتك، فيشعرك أنها سببت له «الديسك» فجأة، أو حرّكت عضلة كانت منسية، فتلوم نفسك حينها بعض الشيء، لكنه لا يكتفي بالشد العضلي، لتصل الأمور به أن يشكو دوماً من «العيا»، والصحة ما عادت تسمح، وعلى قدها، وأن سيارته هدّها العمر، وبحاجة لعمرة، فتشعر أنك غديت مسؤولاً عن يتيم في الخمسين، وحتى تصل لعنوانك المقصود، يكون جسده تهردم قدامك، ولا باقي له عظم صحيح، وليس له من نعيم الدنيا إلا «اللظى»، وأيامه معدودة، ناسياً أنه كان يزاحم زملاءه، وكأنه «صبي» زعيم العصابة في الأفلام، وهو يصرخ بأعلى صوته، منادياً على زبائن المطار، حاملاً حقيبتين من حقائب الحجاج خطفاً في خفة رافع الأثقال التركي.
بينما السائق اللبناني، لا يحب أن «يتقاشر» على عافيته، وأول شيء سيدعو لك بالصحة، وأن الله يخليك، ويخلي «عيلتك»، وأن مثل الصحة «ما فيّه»، ثم ينتقل لحكاية الصحة من وجهة نظره، وهذه المرة، سيطرحها على الوالدة المسنّة، والتي تبدو أمام عينيك لحظاتها أنها حملته وهناً على وهن، وفصاله وفطامه في عامين، فتحنّ، ويرق قلبك على العجوز، خاصة وأنه يوحى لك ببلوغها أرذل عمرها، متناوبة عليها الأمراض، فتتحول فجأة لصورة أمك، فيعتصر قلبك ألماً وشفقة، وتظل تطلب لها الشفاء، وتكثر من الدعاء، وهو أمر بالتأكيد لا يريده ذلك السائق غير العجل، بقدر ما يريد شيئاً يترجم لرقم في نهاية الرحلة التي اعتادها، ولا يمل من تكرارها، حتى تصل لعنوانك الذي طال بك «المشوار» إليه، ولا يبقى شيء صالحاً في تلك الوالدة، إلا الطحال، وهو أمر أرجح أنه نسيه أو وجد أنه لا «عازه» له من بين تلك الأحشاء المتضخمة، بفعل حديث الابن «البار»!