تتعرض الرواية الأولى للشاعر علي المقري ''طعم أسود··· رائحة سوداء'' لمعضلة اجتماعية من الموروثات الثقافية المعقدة المنعكسة في التراتب الاجتماعي والصورة النمطية المستقرة في الوعي الجمعي عن فئة من المهمشين تحت مسمى الأخدام المميزين بلون بشرتهم السوداء وعيشهم على حواف المدن في عشش بائسة فضلا على المهن الدنيا التي يمتهنونها ويجري عزلهم ونبذهم بطرق مختلفة كاستحالة الزواج منهم أو توظيفهم وصار لهم في التلقي الجمعي طعم مميز ورائحة يتصفان بالسواد نفسه الذي فاض من لون أجسادهم ليصبغ وجودهم كله، بل تقصى المقري تمثيلات الجماعة لهم ثقافيا في الأمثال والمعتقدات ليؤكد اقتران السواد بكل ما هو سيئ· رغم أن الرواية تعقد مصالحة استثنائية هي جزء من حلم أو نية الكاتب كزواج الطبيب من جمعة الخادمة السوداء التي تعمل في عيادته فهي لا تقدم ذلك كقاعدة، على العكس فالراوي عبدالرحمن الذي هرب مع (الدوغلو) مهمشة أخرى من المزينين (الحلاقين) لا يفلح في تغيير أي وضع بكونه أبيض أو أمبو كما يصطلح الأخدام على المدينة والمدينيين· تتراوح أحداث الرواية بين أعوام 1970 و1982 زمن تشطير اليمن وقبل وحدتها وفي مدينة تعز قرب مستنقع عصيفرة حيث محوى من مجمعات عشش الأخدام المبنية من الكارتون والصفيح يتعرف الراوي ليعرفنا كمروي لهم بما تخنزنه حياة الأخدام من مرارة وما يعيشون أيضا من لحظات حرية خاصة في مقدمتها ما يشبه المشاعية في العلاقات والتعاون والتعاضد بينهم، ويستقرئ بصبر ودراية وفن ألعابهم وأغانيهم وعاداتهم ويبوح بشكاواهم وإن بدا بعضها مسقطا من وعي الكاتب نفسه لأن مونولوجات وحوارات الشخصيات لا سيما سرور ورباش العبد والحرتوش يعكس وعيهم السياسي والاجتماعي بأكثر مما يتيحه السرد من تاريخ الشخصية وأبعادها· ويكفي أن نطالع في الصفحات الأولى أقوال رباش في المحكمة وتحويره للكوجيتو ليصبح (أنا أخون إذا أنا موجود) لنرصد تلك الملاحظة· حين تفرغ من قراءة الرواية تشفق على الكاتب لأن موضوعها مثير وحيوي وحساس سيجذب انتباه القارئ ولا يجعله يتنبه إلى سردها المتقن سواء بتعالق الأفعال أو المصائر، والدراسة النفسية للفئة وأفرادها وأحاسيسها تجاه ما يجري لها، وعالمها الداخلي وما تحكمه من أنساق ثقافية واجتماعية· وهذه اللغة المرنة الرشيقة المتراوحة بين تصوير الألم والعنف والجنس والفقر والأحلام والطرافة والتعاسة معا· لا شك أن الرواية مهمومة بأكثر من انشغال كتاريخ الفئة وانحدارها وواقعها ومستقبلها لذا يستعين بصفحات من كتب التاريخ والدراسات الاجتماعية والمشاهدات المباشرة، وكلها دليل على انهماك المقري في عالم روايته التي لم يرد للمخيلة وحدها أن تتسيدها بل ترك هامشا طيبا لراهن تحترق في أتون فقره ومرضه وعوزه حيوات تحتضر وتجعل سرور في آخر صفحات الرواية يردد بلسان الفئة كلها (أنا قرطاس في أرض، حفنة غبار، كومة قش، أنا لا شيء·· العلب الفارغة بيوتي، لا· أنا بيتها، أنا علبة فارغة، علبة مدعوسة في طريق)·