كم كتَب الكُتّاب، منذ قرن من الزمان على الأقلّ، عن موضوع اللّغة العربيّة، وهل هي صالحةٌ للحياة العصريّة بكلّ تعقيداتها وإشكالاتها، فِعلاً، أم لا؟ وكأنّما اللغاتُ البشريّة الأخرى نزلتْ من السماء فوُهِبتِ القدرةَ على التفوّق الذي لا يجارَى، من حيث إنّ اللّغة العربيّة مجرّد لغةٍ دنيويّة قاصرةٍ يستعملها جيلٌ من الناس، فهي أضعفُ مِنْ أنْ تَسَعَ العلومَ والثقافاتِ والفنونَ العصريّة بكلّ تفاصيلها الممكنة. ولَمّا تخاذل أهلُ هذه اللّغة تخاذلاً لا ينبغي لأحد أن يُنكره، فإنّ الناعقين تجرّءوا على الحقّ فارتفعت عقائرُهم فلم يزالوا ينعَبُون ويَعْوُون في وجه هذه اللغة، وآخرُهم شخص من بلاد المغرب العربيّ قال يوماً في ندوة محلّيّة: إنّ اللّغة العربيّة غيرُ مثقَّفَةٍ! وإنّا لا ندري أيقصد الرجلُ بعبارة “غير مثقَّفة” إلى المعنى المعجميّ القديم، وهو الاعتدال، أي غير معتدلة، أي غيرُ مستقيمة، أي معوجّة، أم إلى المعنى الثقافيّ الجديد وهو سَعَة المعرفة وغزارتها؟ فأمّا إن كان يقصد إلى المعنى الأوّل فليست العربيّةُ شوهاءَ ولا بلهاءَ، كما يزعم؛ بل غَيْداءَ حسناءَ، تنطق بالحكمة، وتَنسُِج البيان الصافي الذي قلّ له النظير في اللّغات البشريّة الأخرى. وأمّا إن كان يقصد إلى المعنى الآخِرِ فما العربيّةُ بفارغة الذهن، ولا جافية الطبع، ولا غليظة القلب، بحيث إنّها محرومةٌ من فضل المعرفة وجمالها وجلالها. وكيف يقال عن لغةٍ وسِعت القرآن الكريم، ونُسِجت بها المعلّقات، وخَطب بها قُسّ بن ساعدة، وتغنّى بها أبو الطّيّب، وأبدعَ بها أرقّ الصور وأجملَها شعراء الأندلس في جنوبيّ أوربا، وتُرجمتْ روائع آدابها إلى عدد لا يحصَى من اللغات العالميّة والمحلّيّة جميعاً؟... كيف يقال عن العربيّة: إنها لغة غيرُ مثقّفةٍ وهي التي بثّت أنوار الثقافة على الخلْق أجمعين، أكتَعِين أبْصَعِين؟! كيف يقال عن لغتنا: إنها لغة جاهلة وهي التي نقلت تراث أهل يونان إليها، ومنها نُقل إلى اللغات الأوروبيّة فكانت سبباً مباشراً في قيام النهضة الحديثة لأهل أوروبا الذين يحكمون اليوم العالَم؟ وكيف يقال عن العربيّة: إنّها لغة غيرُ مثقّفةٍ وهي التي منحت الأرقام التي كانت أساساً للنهضة العلميّة في العالم الغربيّ اليوم؟ وهل اطّلع هذا الرجلُ، الذي يجب أن تخاطبه العربيّةُ بلسان حالها: أنتَ هو غيرُ الثَّقِفِ ولا اللَّقِفِ ـ على كنوز العلوم التي كُتبتْ بالعربيّة وكانت ركيزة عظيمة تقوم عليها كلّ النهضات الأدبيّة والعلميّة اليوم في العالم؟ هذه اللّغة المتَّهَمة بأنّها غيرُ ثَقَافٍ هي التي علّمتْ دانتي فكتب كوميديّته، وعلّمتْ سرفانتيس فكتب دونْ كِيشُوطِه، وغير هذَيْنِ كثيرٌ مِمّن أخذوا من ثقافة العربيّة من أهل الغرب، ولكنّا لا نعرف عنهم أنّهم أخذوا... كنت أودّ لو أنّ هذا الرجل، قبل أن يتّهمَ العربيّة بالضحالة والجهالة والرذالة، كان أقبل على القراءة المعمّقة في التراث العربيّ ليتثقّف من كنوزه التي لا ينضَبُ مَعينُها، ولا تنقضي عجائبُها. ولو جاءَ ذلك، لكان غيّر رأيَه حتْماً.