من الأسفار التي أمارسها عادة، سَفَران: الأول بالذهن والتأمل، والثاني بالجسد والتنقل الفعلي بين الأماكن والبلاد. وقد أجمع أحياناً بين السفرين معاً في وقت واحد، وتلك من متع الحياة عندي، حين أمشي على شواطئ طويلة بمحاذاة البحر، فيكون جسدي في حركته الحرة الممتعة، ويشرد ذهني في رحلة أخرى لا تقل متعة عن رحلة الجسد. وهناك رحلتان قمت بهما، من بين العديد من الرحلات، يربط بينهما البحر والطيور المحلقة. الرحلة الأولى هي الى بعض جزر اليونان، المحاذية لمدينة كا?الا (قَوَلة كما تعرف بالعربية)، المتناثرة بعيداً عن الساحل، في البحر الأبيض المتوسط. وفيما كانت تمخر بنا السفينة أمواج البحر، كانت تحلق فوقنا وترافقنا طيور بيضاء جميلة هي النوارس البحرية، تقوم بتحليقات ومناورات على علوّ منخفض، حتى تكاد تلامس رؤوسنا ونحن في المركب، أو تحط على أكتافنا. كانت هذه الطيور تترصد بعض الأسماك البحرية الصغيرة، لتغط فجأة فوق الموجة، وتلتقط بمناقيرها بعض الأسماك، وتعود للتحليق والمناورة.. فقد نالت شيئاً من رزقها، وهي تبحث عن المزيد. كانت شواطئ إحدى هذه الجزر العذراء (جزيرة تاثوس) نظيفة وبلورية، وحين تنظر الى الماء المحاذي للشاطئ، فبوسعك أن ترى بأم العين بعض العروق الكبريتية في القاع، نظراً لشدة صفاء البحر.. لم يصل التلوث الى هناك، ولست أدري متى يصل؟ والغابات في الجزيرة والأشجار كبيرة وبكر، وفيها عيون وصخور ومياه، وقد ذكّرتني بأوصاف الجنة، كما وردت في الكتب المقدسة “جنات تجري من تحتها الأنهار”، كل ذلك شاهدته بأم العين، في جزيرة “تاثوس” من جزر الساحل اليوناني، في المتوسط. أما عوائل الطيور العجيبة، وما أكثرها، على الساحل العُماني الممتد من مضيق هرمز شمالاً حتى صلالة في أقصى الجنوب، وهو الساحل الممتد بأقواسه ونتوءاته، في مقابل خليج عمان، وبحر العرب.. إن بعض الجزر المنشورة غير بعيد عن الشاطئ الشمالي، تعشش فيها وتزورها طيور لا حصر لها ولا عدّ.. وهي تأتي في مواسم رحلة الطيور التي تهاجر من المناطق الشرقية التي تصل خليج عمان بالمحيط الهندي، مع الخريف والصيف (تموز وآب وأيلول) من كل عام، لتأخذ من هذه الجزر محطات لها، وقد تستقر أو تتابع الرحلة. ومن بينها، فضلاً عن النوارس، طيور أخرى جميلة ونادرة كالحمامة الخضراء والرقراق الأخضر، والبلبل أبيض الخد.