القراءة أفضل من الكتابة، لأنك تقرأ ما ترغب فيه، ولا تكتب ما ترغب كتابته، تكتب ما تستطيعه.. هكذا كتب أشهر عميان القرن العشرين الأدباء في العالم، والذي كان تكريسه شبه الشعبي عمليّة تعذيب له حسب سيوران.. كانت عملية القراءة بمعناها الشاسع العميق والموسوعي، هاجس ذلك الكاتب الفذ، متعته الفريدة التي لا تضاهيها متعة أخرى حتى إنجاز الكتابة، كتابته التي ترتفع عمارتها الى مصاف التأسيس والخلود، إن كان ثمة من معنى لهذه الكلمة الأخيرة.. كان يتلذذ دائما بنعت نفسه بـ(القارئ)، وان الكتابة هاجمته صدفةً، فمن هو أمام أولئك الكبار في التاريخ الذين أعجب بهم وكرس معظم وقته لقراءتهم؟ كانت القراءة هدفه ومبتغاه، الترحال الدائم بين الأطالس والمعاجم والكتب المهملة التي لم يعد يقرأها معاصروه، دعك من الكتب والكتاب والفلاسفة الذين شكلّوا فضاءاته اللامحددة.. كانت القراءة، شهوة القراءة العارمة التي تكتسح في طريقها كل همّ آخر واهتمام، وكانت الكتابة فيض هذه القراءة والتأمل الكلي وصداها، الذي تشكّل حديقة عالمه الوارفة.. كان (بورخيس) شديد الإعجاب بمقولة (إمرسون) المكتبات مغارات موتى يجري بعثهم أحياء عبر القراءة.. كانت الكتابة لديه احتفاء بما يقرأه ويعجب به.. كان قارئاً متعويّاً مفعماً بالعواطف حد التطرف تجاه من يحب، كما يصف نفسه في غير مناسبة.. لم يصف نفسه بالخالق ويقيناً بالنسبة لأمثاله فان أوصافاً من قبيل العبقري والفذ والرائد المطلق الريادة، كلمات تؤلمه وتؤذيه.. كان من تلك السلالة التي تقرأ وتتأمل وتكتب وتعيش ببساطة وعمق يستعصي فهمه على (الكتَبَة) مهما علا صوتهم وصيتهم.. تلك السلالة التي كانت المعرفة والسموّ الروحي والبحث المضني بالنسبة لها قدراً ومصيراً.. على عكس طائفة أخرى تحتل رقعة كبيرة من الثقافة العربيّة وغير العربيّة.. قلت العربيّة لأنني أريد أن أعرّج على مثال واحد سريع من رقعة الاحتلال تلك.. أحد الصحفييّن الأذكياء سأل “مفكراً” معروفاً عن قراءاته وماذا يقرأ.. فما كان من هذا المفكر، وقد أحس بالإهانة من فحوى السؤال المتطاول الغريب عليه، أن ردّ: “نحن لا نقرأ يا أستاذ، نحن نكتب والآخرون هم الذين يقرأون لنا (كذا)”.