عندما يفقد الإنسان عزيزاً، تصغر الأشياء الكبيرة في عينيه وتبدو الحياة أضيق من ثقب إبرة ويحلو له البكاء وحيداً منفرداً.. الموت هو الكائن المتوحش الذي لا تكسر أنيابه خارقة ولا ترد له طارقة ولا تمنعه صامتة لأنه النهاية الأكيدة لمسرحية فاشلة اسمها الحياة ولأنه الأمد البعيد المستمد مداه من مدة أبديته وسرمديته وغفوته الطويلة.. الطويلة، التي لا أبعاد لها ولا جهات ولا حواف ولا شواطئ ولا أمكنة. الموت نهاية المهزلة المفضلة المفصلة من سندس الأحلام البائسة ويقظة الحالمين البائسة.. يأتي لينهي فصلاً من فصول اللامعقول ليأخذ من يريد أن يأخذه إلى مجهول أعمق في عتمته من فهمنا وعلمنا ونظرتنا وبصيرتنا وبصرنا، وما نظن أننا نعرفه ولامسنا فيه اليقين.. عندما تنظر إلى من يتوسد حصاة تحت كف استسلم للانطفاء الأخير واختبأ تحت ركام من الرمل وقال للمودعين وداعاً أيها الذاهبون بعيداً، الآتون لا محالة إلى حيث الحقيقة وما عداها فهو ضرب من الكذبة الكبرى وخدعة البصر.. عندما تتأمل الجسد المستسلم، الهامد، الخامد، الجامد، الشارد في فلك الموت، القابض على جمرة سكونه تفكر في هذا التراب الذي تدوسه الأقدام بعنف وصلافة وتبجح، تفكر في هذا التراب كيف ينهال بعنفه المعتاد ليخبئ جسداً ما إلى الأبد، يطمسه بعيداً عمن أحبوه و قاسموه لعنة الحياة وبؤسها ورجسها ونجسها. تفكر في الجسد الذي كان في يوم ما دورة دموية تتحرك باتجاه القوة والعناء والرغبات المفتوحة على آخرها والعيون المحدقة في الآفاق البعيدة والقلب الذي تدفعه مشاعر وأحاسيس وأعطى شيئاً وبخل في أشياء والروح التي لا مدى لها ولا لون ولا رائحة، والوجه الذي كان مرآة للفرح والحزن والحلم والغضب.. وأشياء أخرى تغيب تحت هذا التراب تخفي معها أسراراً وأفكاراً وأخباراً ودواراً دار واستدار بالرأس حتى أطاح وصار هو الكائن المستبد المستمد قوته من قدرته على إنهاء النشيد الكوني واستباحة الصمت الرهيب. الفقدان لاشيء سواه، الفجيعة والانكسار والاندحار والابتعاد الأكيد عن حالة النسيان الكاذبة والمهذبة أحياناً بأساليب دينية وثقافية واجتماعية.. ومع كل ذلك ورغم كل ذلك يبقى هو الفقدان الذي يسرق من بين يديك عزيزاً يسلبه ويجلبه إلى حيث أتى وإلى حيث جاءت النطفة من نقطة الصفر. الفقدان حسرة المتربصين المتوجسين الواقفين بانتظار ما سيأتي وسيأتي لا محالة لأنه الحقيقة الأصدق تحقيقاً لنهاية اللعبة البائدة.. ويكذب من يصدق أن شيئاً غير الموت حقيقة.