حين يصل شاعر إلى أن يقول: ''أنا شيخ نفسي''، فمعناه أنه وَصَل إلى سدّة عالية من معرفة الذات، وأنه ترقّى في مدارج هذه المعرفة درجة درجة، فأدرك ما ليس منه مما هو فيه، وصفّى جوهره الشعري الفرد تصفية تطرد الطحالب والشوائب والأخلاط، لتستقر في النتيجة على ماهية الذات الشعرية·· هذه الماهية التي هي الشاعر في آخر درجات محاكماته لذاته، وفي آخر تقلباته بين هنا وهناك، وهذا وذاك من آخرين كانوا خالطوا صورة الشاعر خلال فترات من حياته وتجاربه·· فتخليص الليل من النهار هي أقصى مهمات الشاعر في تعامله مع قصيدته·· وهي مسألة تستدعي موهبة يقظة ومتطورة، كما تستدعي وعياً بالحدود·· فالشعر يموت بالتماثل ويعيش بالتفرد والمغايرة، وشعر الشاعر كبصمة الإصبع أو العين، لا يدل في لحظة الذروة إلا عليه هو، كان نزار قباني يقول: ''أنا لا أستعير أصابع الآخرين، ولا أشرب من دوياتهم''، أما أفتو شنكو فيقول: ''أيها الشاعر أنتَ المحكمة العليا لذاتك''· ''أنا شيخ نفسي'' جملة شعرية قالها يوسف أبولوز في قصيدة من ديوانه الأخير ''خط الهزلاج''·· والقصيدة بعنوان ''قافية مكررة''·· يحاور فيها صديقه الشاعر أحمد فرحات، ويورد جزءً من فحوى الحوار في القصيدة· فالاشكالية بينهما كشاعرين متباينين وصديقين، قائمة في الوزن والقافية· أحمد يدعوه لفك الأربطة، ويوسف يثبتها: ''·· قال أنت تكرر قافيةً والتكارير ضعف لتبحث عن اللام في النون ابحث عن العين في الميم دوّر عن الهاء أهلاً وفي الخاء خلاّ لديك الحروف احترف لغة وتعلّم كلاماً تَقُدْ دولة قلت لا شأن لي في الدولْ''· والقصيدة حوار في القصيدة ودفاع عنها وإثبات لها كطريقة تخص صاحبها، أو كما يقول الشاعر ''لغة في الكلام'' وهديل خاص أو صفير خاص لصاحبه، وهو يمعن في التفاعيل والقوافي إمعاناً إبداعياً واصفاً من خلالها هويته الشعرية كشاعر يكتب الشعر بالفطرة البدوية ''لقد قطعته الحوادث ثم اتصل''·· ويغني هذه الفطرة على ما يشبه الربابة·· ويلعب على الحروف لعباً متواصلاً موزوناً ومقفى لينتهي بالقصيدة ـ الحوار إلى هذه الخلاصة: ''··ومثل اللغات تموت الدول وهنا قال: أنت تكرر قافيةً وفهمت عليه: وصحت به يا حبيبي أجَلْ''· والقصيدة بذاتها في بنائها، وتفاعيلها وقوافيها، هي مصداق قول الشاعر في أواسطها ''أنا شيخ نفسي''·