هل يمكن أن يصبح السفر فعلا لازما يقف عند حدود مشاهداته ومرائيه ولا يتعداها لغرض وصول ما أو بلوغ غاية؟ هانس انسنسبرغر الشاعر الألماني المعاصر يكتب في عدد مجلة ''فكر وفن'' الأخير المكرس لأدب الرحلات عن نشأة السياحة وتطورها والحنين الرومانسي للبعاد وإحباطاته واصفا السفر من أجل السفر بالمغامرة حيث لم يكف البشر عن ارتكابها، وتمثلتها الملاحم رمزيا ـ كعودة عوليس بطل الأوديسة أوالتجسيد الأسطوري لكل الرحّالة ـ كما يصفه انسنسبرغر، ويفوت الشاعر هنا رمز أكثر التحاما بالسفر كفعل مقصود لذاته ومغامرة للتعرف والخيال أيضا، هو السندباد البحري كما قدمت حكايات ألف ليلة وليلة مفردات رحلاته السبع في جغرافيا متشكلة من الوهم والواقع، يحكي السندباد تفاصيل رحلاته التي تبدأ بلذة المغامرة التي تحركها نفسه الأمّارة بالأسفار كما يقول وتنتهي بالخلاص بأعجوبة من الخطر المميت ثم العودة مرة أخرى من بغداد إلى البصرة لشراء مركب والإبحار إلى مجهول آخر في سلسلة الاكتشاف وفضول المعرفة المباشرة · السارد هو السندباد نفسه بعد أن أنابته شهرزاد لمهمة الحكي فراح يقص على سندباد فقير يتفيأ بظل قصره بعد التعب متمنيا لو تملك مثله، ما عاناه في حياته التي هي أسفاره فحسب، عناء استحق بعده قصرا كهذا، فيتم فعل التعويض الذي تنبني عليه أغلب حكايات الليالي، لكنه يوغل في تصوير مخاطر السفر الذي لا يبخل ببعض المكافآت كزواج السندباد المتكرر أو حصوله على كنوز وعطايا وأخيرا نجاته بأعاجيب خارقة من موت محقق كل رحلة· يصبح السفر لدى السندباد فضاء للتعرف والتخيل معا، وإذا كان عوليس عائدا يتبع سهم رغبته المؤشر إلى موطنه إيثاكا فإن السندباد يتبع نداء آخر وإشارة أكثر دلالة وعمقا ويشير سهم سفره إلى الخارج عكس سهم عوليس، وبالرجوع إلى العدد نفسه سنقرأ مقتطفا من لاهوتي من القرن الثاني يصف حب الأوطان بالمهد وحب أمكنة العالم طريقا للنضوج أما النضوج نفسه فهو الإحساس بأن العالم أجمع مكان غريب، وهذا عين ما جرى للسندباد خالق الأمكنة الإيهامية المليئة بالعجائب التي سرعان ما يرغب بمفارقتها بعد إنجاز رغبة نفسه المنقادة دون دليل لجاذبية الغرابة التي يقصر عن حماستها رحالة معاصرون مزودون بجهاز توجيه المسافر (GPS) الذي تعتبره مقالة أخرى من هبات الحداثة ومننها· ورغم ما يذخر تراث العرب من مدونات أدب الرحلات كانت المساهمة العربية الوحيدة في العدد هي قراءة الشاعر نوري الجراح لرحلة حسن توفيق العدل من برلين وإليها، وثمة استعراض لرحلات الشدياق والطهطاوي إلى الغرب بينما تلاحقت هواجس وملاحظات رحالة غربيين عن الشرق وخفاياه التي تراها عيونهم المغمضة حتما عن طبقات محجوبة تحت طيات سطحه الخادع·