سُلطة الشارع
قبل ظهور الموبايل، كان الشارع ينعم بسُلطة التدخل في تعديل السلوك، ولا يزال، إلا أن أمر التدخل خف كثيراً إلا فيما يظهر جلياً لتعرية واضحة لفكرة اجتماعية أو دينية.
عانى الذين يمشون وهم يتكلمون من رقابة الجار الماشي، ونعرف جميعنا بأنه في بعض المرات نتآلف مع حوارنا الداخلي إلى درجة أننا نكلم أنفسنا دون أن ندري، ومرات يكون طبيعياً عند بعض الناس أن يتكلموا مع أنفسهم كنوع من طبيعة وضوح المحاور والمتحاور في نفس الشخص، وفي الحالتين وغيرهما يُطلَق على هؤلاء عَرَضاً: مجانين.
تهمة التحدث مع الذات بصوت عالٍ مارست نوعاً من القمع على مَن يفعلها، وعلى مَن أصبح يحاذر من الوقوع فيها، لئلا تمسه نظرات الناس، والأخطر لئلا ينزلق دون وعي منه فيصبح مجنوناً فعلياً.
ولا ننسى أن المصنف مجنوناً رسمياً، يشكل رادعاً للجميع، فلا يريد أحد لنفسه أن يذهب عقله بلا رجعة إلا في حالات الزهق والملل من الحياة أو آلامها إن استمر بشكل لا فكاك منه. إن بداية التفوه بحرف مسموع على الملأ دون وجود شريك حقيقي مرئي، هو الخوف من الجنون والعَتَه وأصابع الفكرة المستقرة والجاهزة في ذهن المجتمع: هل جُننت؟ أو حاذر فقد تكون في طريقك للجنون.
لكل ذلك ارتباط بالمؤسسة التربوية والاجتماعية بأغلب تشكلاتها، إذ يعكس هذا التصور تخلفاً في تلقي طبائع مختلفة، بل وعادية، ويضع الناس فعلياً ضمن مفهوم القطيع، نظراً لما يفرضه ذلك من تشابهات سلوكية لا تجعل من كل شخص حالة خاصة مستقلة، وبالتالي يضيع علينا ما يمكن أن نسميه الجنون الإيجابي، الذي هو في آخر الأمر شكل من أشكال الاختلاف في التعبير عن النفس.
وهنا يمكننا أن نفهم أن أحزاب المعارضة أو المعارضين المستقلين يُمارس عليهم من السُلطة المستقرة نفس أدوات ما كان يمارس على المتفوهين بسرائرهم الناطقة دون حاجة إلى شريك واقعي للحوار، إذ من يملك السُلطة هو من يصنع التاريخ حسبما يشاء، غير سامحٍ لأحد بمعارضته إلا في حدود إجرائية لمسيرته الشخصية.
وما فعله الموبايل وسماعتيه أنه مع الوقت جعل الناس كلهم مُخْتَلِين بأنفسهم، يطلقون بلا خجل صوتهم عالياً، وقد رحم ذلك هؤلاء الذين يبذلون جهداً لئلا يُظن بهم الشطط، حينما تجبرهم دواخلهم على التكلم بصوت عالٍ؛ لتنفيسٍ أو تعبير عن سخط أو أيما كان السبب.
وليس الموبايل فقط، بل إن تعدد أشكال الاتصال هدد الكيانات السرية للسلطة المُطْلقة، صحيح أنها حولتها للانتباه لمعنى فرض القوة عند اللزوم، لكنها وضعتها في مأزق ما يصح تسميته “المجتمع الحر من الحوار الصامت”.
eachpattern@hotmail.com