انهضي يا أمي.. أين أنت؟ أين تختبئين؟ بحثت عنك في الحديقة التي تحبينها وتضحكين من شغفي بالنباتات وانشغالي الدائم بزراعتها في كل مكان وإناء. وتقولين لي مازحة: «ما بقى ماعون يابنتي ما زرعت فيه.. حتى كلاسات الروب والماي».
بحثت عنك في غرفتك التي تعبق برائحة العود وماء الورد والعنبر، فلم أجدك.. وحين لمست سريرك وجدت ذرات غبار على مخدتك فعرفت أنك لست هنا.. وإلا فكيف للغبار أن ينتشر على فراشك وأنت تضيقين بذرة من الغبار إذا توهمت أنها علقت بثوبك أو بشيلتك. فكيف سمحت لهم أن يغطوك بالتراب إذن!
انهضي يا أمي.. هيا انهضي من غفوة الموت وتراب السنين! انهضي واحبلي بي مرة أخرى، وانقشي تاريخ ميلادي على بطنك الخصب، وهزيني على سرير حضنك وغني لي: «حبيتج يا بنيتي محبة الأهل والأغنى ومحبة الضنى ما دونها دون. حبيتج يا بنيتي محبة تدعي الملح شكر وتدعي عويدات الثمام قرون»، لتكن محبتك صواري، وذراعاك أشرعتي، وصوتك كوس الرياح. هزيني على سرير صدرك، خيّطي لي ثوب المهد واضفري شعري بحنان أصابعك، وارضعيني من ثراء حليبك، وصدرك الذي لا تطاله أصابع حنيني الآن، ولا أنين جوعي إليك.
انهضي يا أمي.. وانثري غناءك بصوتك العذب في أرجاء البيت، فلم يعد فيه إلا صرير الغياب! انهضي وأسندي رأسك المتعب على قلبي. دعيني أحصي عروق الفضة في شعرك الليلي، وأنثر عطر وردك فوق دروب المعذبين، لعل حائراً ينازعه الموت، يشم عطر وردك فينتفض في عروقه شوق الحياة. فحيث تلوحين يا أمي في الحلم أو اليقظة تشق عنان الحياة صرخات الولادة. وحيث ينبثق وميض حضورك تنهار العتمة ويشرق الكون بالضياء. انهضي يا أمي، وانفضي التراب الذي علق بذيل ثوبك، فمساحة القبر ضيقة، وأنت اتساع الأفق وثراء روحك المحيطات. ألبسيني خاتماً في إصبعك وغطيني بكم ثوبك المطرز بالمحبة، المندّى «بعود» التضحية و«عنبر» الحنان. رشي ماء وردك على وجهي كي يستفيق في خيالي الشعر المزهو بحكمة السنين وأجراس الطفولة.. خذي قامتي المتيبسة وتضاريسي التي نحتتها مطارق السنين، وامسحيها بحنان أصابعك! آه من قدرة الحب في أصابعك يا أمي حين ينساب من فيضها الحنان كالسيول. انهضي يا أمي وضميني إلى صدرك، فوحشة غيابك تفتك بي، والحزن يفتت شراييني، ودمعتي كطوفان تغرقني كلما ناديتك ولا تجيبيني!