بُح بحجرٍ إذا سكن الماء. ولوّح بقميصك المشقوق إذا رأيت المراكب تنأى وأنت تظنها آتية. وإذا لفحتك الريحُ في ظهيرة صيفٍ حارقٍ، وكوت الشمسُ رقبتك العارية، ورأيت الظلال كلها تهربُ إذا اقتربت منها، تعال معي لندخل في موجةٍ زرقاء لعل حياتنا تُزهرُ، وينبتُ في جوارحنا الأمل.
ولدنا كي نعشق الصحراء متأملين في لظى هجيرها. نشربُ من ماء سرابها الذي يغذي الخيال، ونكتب على رمالها خطوة الأثر الذي يتلاشى متحدياً فكرة الخلود ليومٍ أو للحظة. واللغز الذي نقرأ مفرداته في التراب الناعم الذي تحمله الريح، والخطوط التي يخطّها الغبار على البيوت والشوارع والنوافذ والأمكنة، إنما هي لغة المكان تتوارثها أجسادنا التي اعتادت القيظ منذ الطفولة، وهي اللغة التي تعرفها جلود زنودنا حين لعبنا صغاراً في طفولة الشمس، وكبرنا ونحن نتذوق ملوحة العرق النازف من وجوهنا.
يقول العاشق: إن الصحراء أمي والبحرُ أبي. أينما أبحرت في عينيهما نلتُ المدى. ها أنا أمشي منذ ولدتُ نحو أفقٍ لا ينتهي. وها هو الخيالُ الحُر، لا يكفُّ يتفتّح أمامي بقصيدة بعد أخرى. وكأن هذه الهضاب أمواج زمنٍ تنحتُ وجهه الريحُ، وتعود لتمحيه. وكأن هذا الرمل الذي يشعُّ ذهباً، هو كتاب الخليقة النقيّ. لا زاد للعاشق إلا في القصيدة التي تتفرعُ أغصانها في الجهات الألف. القصيدة التي في مطلعها تقف الظلال في طوابير طويلة أمام بوابة الخلود، ويرتفعُ القمرُ مرآةً بيضاء ليقرأ البشر فيها بقايا ليلهم الطويل. وما يقوله العاشق في سرّه هو تمجيدٌ أبدي لمعاني الصحراء. وما يبوح به في العلن، هو الحنين إلى البحر. وسواء كان الرحيل على ظهر موجة أم على ظهر ناقة، فإن الوصول لملامسة المدى البعيد هو غاية العاشق وغاية القصيدة فيه.
نبجّل قدوم الصيف احتراماً لجلاله وقسوته وحنوّ لياليه. ونمدحُ نسمة الشمال إذا طاب هبوبها، ومرّت لتداعب الجدائل الطويلة في أحلام عشيقاتنا. وليلاً، عندما تسهر النجمة لتوشوش جيرانها عن سيرة التيه. تشيرُ إلينا ونحن جلوسٌ على رحابة تلٍ، وبيننا تدور قهوة الصبر، وعلى ألسنتنا تُروى ملاحم سطّرها الرجال الذين علمتهم الصحراء معنى العزّة والفخر. ومعنى اللّين في الشدّة، ومعنى الشدّة في اللّين.
إنها الصحراء، قبلةٌ أخرى للمسافر الذي يفتّش عن كتاب الحقيقة الأولى، الحقيقة التي لم تُكتبُ بعد.