شاع مصطلح فاسد في اللغة الإعلاميّة هو “هجرة الأدمغة”، وينشأ عن استعمال هذا المصطلح خللان اِثنان: أوّلُهما أنّ الْهَجْرَ لا يكون في كلّ الأحوال عن ضِيقٍ في الحال، ولا تعرُّضٍ لاضطهاد؛ وإنما يكون من باب طلب الزيادة من المجد أو العلم أو الجاه. وآخرُهما أنّ الأدمغة التي هي جمع لدماغ لا تعني الفكرَ والعلم والعبقريّةَ والقوّة العقليّة، ولكنّها تعني أساساً استعمال الدماغ للضرْب مثل استعمال اليد للّكْم، ورأسيّة اللاعب الجزائريّ الأصل للاّعب الإيطالي حين شتم أمّه مشهورة بين الناس في هذا الزمان. حقّاً إنّ الدماغ هو جهاز التفكير، ولكنّه اتّخذ معنىً ماداً أكثر منه معنويّاً؛ إذ ليس كلُّ ذِي دماغٍ عالِماً مفكّراً عبقريّاً. فهذان العاملان هما اللذان حمَلاَنَا على أن نستعمل عبارة “إهدار الكفاءات العلميّة”، التي نقترح استعمالَها لهذا المعنى، بدل “هجرة الأدمغة”. ويبدو أنّ عواملَ كثيرةً معقّدة، بعضُها ظاهرٌ معروف، وبعضُها الآخَرُ خفيّ مجهول، تقوم وراء ضياع العلماء العرب، بهجران أوطانهم، والذهاب إلى أقطار أجنبيّة كثيراً ما يكابدون فيها الذّلَّ والهوانَ وهم راضُون! وإذا كان مثل هذا العمود لا يتّسع لذكْر الأسباب الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والنفسيّة التي تُفْضي إلى حمْل العالِمِ على مغادرة وطنه إلى وطن أجنبيّ، فإنّه لا يفوتنا أن نذكر بعض الإحصاءات عن عدد هؤلاء العلماء الضائعين الذين أضاعوا أنفسَهم، وضيّعوا أوطانهم حيث نجد الجزائر تحتلّ الصدارة في هذه الظاهرة بهجرة 215000 عالمٍ، يأتي بعدها المغرب بهجرة 207000 عالِمٍ، ثم تونس بهجرة 68000 ألف. وهجرة هؤلاء في معظمها إلى فرنسا. ويبدو من هذه الإحصائيّة أنّ عاملين اثنين كانا وراء هجرة العلماء المغاربيّين إلى هذا القطر الأوروبي: أوّلهما جغرافيّ، وذلك لقرب الأقطار المغاربيّة الثلاثة من أوروبا، وآخرهما لغويّ، وذلك لطغيان اللغة الفرنسيّة في بلاد المغرب على ألسنة الناس. ويرتبط هذا العامل بالتاريخ السياسيّ، إذ كان الاحتلالُ الفرنسيّ للأقطار الثلاثة وبقاؤُه فيها بأزمنة متفاوتة، تقوم وراء شيوع الفرنسيّة في بلاد المغرب التي شجّعتْ هجرة العلماء إلى هناك. وقد نشأ عن هذه الظاهرة أنّ عُشُرَ أطباء فرنسا هم مغاربيّون، بينهم ثمانيةُ آلافِ طبيبٍ جزائريّ! وتذهب دراسة لليونسكو إلى أبعد من ذلك فتزعم أنّ ثلث علماء أوروبا وأميركا هم عرب! ومن عجب أنّ العالم الأميركيّ إذا تقاضى سبعمائة دولارٍ تقاضى العالم العربيّ دولاراً واحداً، وهذه النسبة، إن صحّت، تشبه نسبة حظّ العبيد بالقياس إلى السادة في المجتمعات الطبقيّة القديمة. والأمر المحيّر أنّ بلداً كالهند لا يكاد علماؤه يغادرون وطنهم، بل يبحثون وينتجون فيه حتّى إنّ عائدات برامج الحاسوب للهند تبلغ ما يقرب من ثلاثين مليارَ دولارٍ، وهو ما يغطّي استيرادها من النفط. والذي يتعلّل به العلماء المغاربيّون، وهو ما نعرفه، أنّهم لا يجدون من التجهيزات العلميّة العصريّة ما يسمح لهم بالنهوض ببرامج البحث، يضاف إليها ضعف المرتّبات، وانعدام المكافآت. وهما تَعِلَّتانِ غيرُ مُقنِعتين.