العقول كالطيور، تقع على أشكالها. هذا ما قاله الرجل الحكيم لجلسائه، ثم استكمل قائلاً: تجنبوا الظلمة يرحمكم الله، فالشياطين تكمن في الزوايا المظلمة. وأضاف من دون أن يلتفت الى المعمّرين في الجلسة: إياكم وألسنة العجائز، فهي أقلام العقول الشائخة. تحرك واحد من الجماعة في مكانه وقال: ولكنْ خبرّنا أيها الحكيم، هل نحن نعيش اليوم في ظلال العقل أم في ضوء الشريعة؟ قال: في ضوء الشريعة. قال: وضوء العلم؟ قال: وضوء العلم. قال: والكهرباء؟ قال: والكهرباء... قال: فلماذا إذنْ مَسَحَتْ جارتنا “أم اسحاق” على رأس ابنها “اسحاق” الذي كان ممسوساً ومختلجاً، بروث هرّ أسود كان قد نصحها به المقرئ الأعمى الذي قصدته، فقال لها بعد أن رقاه ودمدم عليه: مسحة واحدة ويكون الشفاء بإذن الله.. ثم أخذ منها بعض ما ادّخرته من مال، فحُمَّ الصبي وبدأ يخلط بالكلام؟ قال الحكيم: ألم أقل لكم إنّ العقول كالطيور، تقع على أشكالها؟ قال آخر: ولماذا بقي جدّي يجري من رأس التلّة حتى منزله في السهل، خائفاً من الأفعى التي تتبعه، وحين وصل الى داره منقطع الحيل خائر القوى، التفت وراءه فلم يجد سوى طرف الحبل الذي كان عَقَده بإصبعه، وترك الطرف الآخر يسعى خلفه؟ قال الحكيم: لقد خُيّل لجدك خيال لم يتبينّه على حقيقته، فوقع في الوهم. قال الرجل نفسه: وما بالكَ به أيضاً، حين أُحْضِرَتْ له الأتان أمام الدار ليركبها، وينتقل عليها الى قرية مجاورة، وبدلاً من أن يقفز على ظهرها، قفز على ظلّها، فوقع وانكسرت وركه وساقه؟ قال الحكيم: جدّك مغفل يا ابن أخي، وما يلحق به من غفلة، يلحق بأمثاله من المغفلين، في كل زمانٍ ومكان، من عهد أبينا آدم حتى اليوم. عدّل الحكيم من جلسته وقال: أيها الأخوة الكرام، لا تأخذوا بكل ما يلقى إليكم من عواهن الكلام، واجعلوا آذانكم مصفاةً لألسنتكم، وعقولكم مصفاة لآذانكم، فإذا قَرّ في العقول شيء مما جرى به اللسان، فاحذفوا نصفه، وكونوا من النصف الآخر على حذر. وإنما الحديث كما قالت الفقهاء، رواية ودراية.. لكن الدراية مقدمة على الرواية، فالرواية ربما خضعت للمآرب والأهواء، أما الدراية فقبس من ضوء العقل، والعقل قبس من نور الله. ولكن الحكيم استدرك، حين سمع ضحكة من مستمع مغفل، وشعر بثقل حديثه على الجماعة، فقال: وعلى كل حال، فإنّ في غفلة المغفلين، حكمة للعقلا، فلولا غفلة الطيور، لما امتلأت جعبة الصياد.