نتأمل شوارع بعض الدول العربية، فيغشينا غبار المتزاحمين من أجل (الحرية)، فنظن أن ما يحدث هو تزاحم في طابور جمعيات الرغيف الحافي. ننظر إلى الشعارات المرتفعة فوق الرؤوس والأكتاف، فنرى ما يشبه الصور الكرتونية على شاشات التلفاز الأبيض والأسود.
أحزاب وتنظيمات تقود المرحلة بذاكرة الماضي، والماضي ليس إلا أضغاث أحلام لا تسمن ولا تغني من جوع، هي أحلام أولئك الذين تبوؤوا المشهد بآمال تناقض واقع الأمر، فكل هذه الأحزاب يقودها أناس أشبه بالأحافير، والأساطير المقبورة، يكسوها الغبار والسعار، والدوار، وأسرار ما قبل ميلاد الفكر المستنير، فيملؤك الإحباط، وتشعر أن ما يتم من تغيير في النظام السياسي، ليس إلا إعادة تدوير لمادة استهلاكية بائسة، لن يجني هؤلاء المساكين الذين يدورون في الشوارع، غير البؤس والانحطاط، والإحباط والتخبط في دائرة مغلقة بلون الرماد. ذهبت الديكتاتورية وجاءت الفوضى العارمة، ذهب لص وحل مكانه مجموعة لصوص، يرتدون اللباس السحري، بحيث لا ترى أيديهم التي تسرق بالعين المجردة، وبقي الحالمون يقتاتون التبن، ويتنفسون الفراغ المؤدي إلى فراغات مرعبة. في دراسة بحثية أممية، أفصحت عن انتشار حالات السرطان في العراق، وبالأخص في محافظة البصرة، بشكل مخيف، حيث بلغت النسبة اثنين في المائة، وذلك نتيجة لإشعاعات اليورانيوم التي صبت على رؤوس البشر أثناء الحرب الضروس في عام 2003م على العراق. ولو التفتنا إلى سوريا فالحال لا يقل بؤساً، حيث أصبح البلد الذي كان شامياً يتغنى العرب بجمال طبيعته، مكباً للنفايات، وأنقاضاً لا تصلح للعيش الآدمي، أما ليبيا فحدث ولا حرج، أما ديمقراطية اليمن (السعيد) فقد استحالت إلى جسد تنخر عظامه أنياب طغمة شوفينية، باعت الأرض والعرض لغريب لا يضمر للعروبة إلا مشاعر العنصرية، والطائفية البغيضة.
فهذا الوطن العربي الكبير أصبح اليوم ساحة مفتوحة لأطماع قصيري النظر من أبنائه، وكذلك أحقاد أحفاد زرادشت وزيرين تاج، وما تلاهما من مرتدي عمامة الزيف والبهتان والغي والطغيان. هذه هي الحرية التي تداعى لها السذج، ورسم معالمها الانتهازيون، والوصوليون. فعندما يرفع زعيم حزب عربي شعار الحرية لشعبه، وهو قد تشبث بزعامة حزبه منذ أكثر من أربعين عاماً، ونائبه وهي الزوجة المصون، فأي حرية هذه ستنشأ من تحت هذه الأعشاب الشوكية الدهرية؟ إنها حرية البؤساء الذين يحلمون ببيضة الديك، والذين يأملون بنزول المطر، تحت سطوة الصيف القائظ، والله المستعان.