لم أدرك الحكمة من تشدد مدرس مادة الأدب الجاهلي في الجامعة في المحاسبة على الأخطاء النحوية والإملائية مهما كانت، إلا بعد التخرج بسنوات، حين خضت في معتركي التدريس والصحافة، إذ أيقنت تماماً صحة وجهة نظره، فقد كان السبب المباشر في انكبابنا على دراسة النحو في المكتبات، والمحاضرات، والسؤال عن المسائل النحوية. كان ذلك المدرس الوحيد في الجامعة، وربما في العالم، الذي يضع علامة تحت الصفر! فقد كان يحاسب على الأخطاء النحوية والإملائية في مادة الأدب الجاهلي التي كان يدرسنا إياها، وكثيراً ما فوجئ عدد من الطلاب بأنهم نالوا درجة العشرين، إنما تحت الصفر! فنهرع إليه لائمين معترضين، فيرد «لن أتسامح لا في الإعراب ولا حتى في التنوين، من لا يعرف المرفوع من المنصوب والمجرور، فسيكون في خبر «كان» ولن ينال أي سرور وحبور، تعلموا القواعد فإنها على فهم الأدب تساعد، والخطأ النحوي عند المختص غير وارد، وبعد حين قيمة «تشددي» كما تسمونه ستعرفون وعليَّ ستترحمون. لم يصل إلينا النحو الحالي ممهداً مشروحاً إلا بعد جهود لعلماء النحو الذين كانوا مدارس مختلفة أثرت اللغة بوجهات نظر في النحو، فكان في اختلافهم غنى للغة، وقد جهدوا وجاهدوا في سبيل ذلك، قال الفراء: إنما تعلم الكسائي النحوي على كبرٍ، وسببه أنه جاء إلى قوم من الهباريين وقد أعيا، فقال لهم: قد عييت. فقالوا له: أتجالسنا وأنت تلحن؟ فقال: كيف لحنت؟ قالوا: إن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل عييت مخففاً، وإن كنت أردت من التعب فقل أعييت، فأنف من هذه الكلمة، ثم قام من فوره ذلك فسأل من يعلم النحو؟ فأرشدوه إلى معاذٍ الهراء فلزمه حتى أنفد ما عنده، ثم خرج إلى البصرة فلقي الخليل وجلس في حلقته، فقال له رجل من الأعراب: تركت أسد الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة وجئت إلى البصرة، فقال للخليل: من أين أخذت علمك هذا؟ قال: من بوادي الحجاز ونجدٍ وتهامة، فخرج ورجع. وقد أنفد خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ. قال الكسائي لأبي يوسف القاضي في حضرة الرشيد: ما تقول لرجلٍ قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار؟ فقال أبو يوسف: خطأ، إذا فتحت «أن» فقد وجب الأمر، وإذا كسرت «إن» فإنه لم يقع الطلاق بعد. فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو. وكان الكسائي شاعراً أيضاً، فقد مدح ولدي الرشيد، الأمين والمأمون: أرى قمري أفقٍ وفرعي بشـامةٍ يزينهمـا عـرق كريــم ومحتدُ يسـدان آفـاق السـماء بهمـةٍ يؤيدهـا حـزمٌ ورأي وســؤددُ سليلي أمير المؤمنين وحائزي مواريث ما أبقى النبي محمد Esmaiel.Hasan@admedia.ae