من عاش في الشندغة لا يتذكر إلا ترابط أهلها وأخلاقهم العالية (ولا على أهل الإمارات زود)، إذ إن الزمان صنع هوية خاصة بهم تسكن في عبق الذاكرة والذكريات وفي الوجدان، فهي تعكس تجربة جماعية ومعرفة تراكمية وأسلوب حياة ذلك العصر، وكلها عناصر لا تلتقي. فقد فرق الزمان بين أصحاب الأدوار الرئيسة والمكان الذي يذكرنا بهم وبتلك الأيام الخالدة. لقد كان أهل الشندغة «هابين ريح» تعلمنا منهم الصبر والجَلَدْ واللطف والجمال، فهم من تمسك بالمكان رغم ضدية الزمان حتى أنهم حفظوا أبياتاً تؤكد عزمهم على الصمود والبقاء والبناء فلم تهتز أشرعة المستقبل عندما قال في منزلهم أحد الشعراء: «الشندغة ماباها لو تستجيم بلاش
موي البحر يغشاها مع كل حملٍ طاش».
وكما تفترق الأنا عن الذات تقف الهوية على أعتاب الهُوَ والآخر ويمضى الزمان. وإن سألنا أنفسنا «ما معنى الزمان؟» يقول لنا لسان العرب أن الزَّمَنَةُ: الْبُرْهَةُ والزَّمَانَةُ: الْعَاهَةُ ويكون الزمان شهرين إلى ستة أشهر والدهر لا ينقطع. وهناك ما تأصل في الذات من أزمنة الطفولة وانصهر في الروح والذاكرة حتى أصبح جزءاً لا يتجزأ من النفس والهوية والموروث والثقافة.
عندما زرت حي الشندغة التاريخي في الأسبوع المنصرم تنفست رياح الماضي، وجالت في الأروقة الضيقة أحلام الطفولة وما تراكم في الذهن وما تصارع من الذاكرة وسار يهز شِباك القلب، فجاءت الدموع لتعبر عن وطن بناه الأجداد وسهر على راحته القادة، ومسيرة عمر لا تعرف الخبث أو الدهاء. وسالت دمعة لتعبر عن مهندسي الماضي وصُناع جمال الحاضر. وزرت منزلنا ومسقط رأسي ولامست جدرانه بحثاً عن الأصوات والعرق والدخان ثم اتصلت بصديقة الطفولة الدكتورة أمينة الظاهري وسألتها عن موقع بيتهم الذي تعرفه الأقدام جيداً. سار بي صوتها حتى بلغت منزلهم ومنه إلى منازل أخرى حتى تجلت أمامي خريطة الزمان.
للعارفين أقول: كما هي ليوا «عروس الظفرة» هي الشندغة مصدر إلهام وعطاء، وهي قلب دبي النابص. وها هي تعود لتشرق كشمس الصباح وكإشراقة وطني بين الأمم. يقول الفيلسوف مارتن هيدغر: التاريخ والهوية، مثل الفلسفة لها القدرة على أن تعيد نفسها من أجل عصر ما وأن تفعل ذلك، بحسب الروح والقوة اللذين من شأن عصرٍ بعينه.
تحية للشندغيين... وثقافتهم الإماراتية العريقة ذات الجذور والأخلاق والجمال.