أيها السارح في الملكوت ماذا رأيت؟ كيف تبدّى لك البشر حين تأملت في الذئاب؟ وعلى ماذا عثرت حين نبشت في التواريخ المطمورة وقواميس المسكوت عنه؟ هل عثرت على الدليل إلى الحقيقة، أم تفرعت خطاك مثلي على ألف درب، وجاءت الأيادي المرتجفة لتكمم فمك كلما هممت بالغناء؟ وجاءت الأرجل بالأحذية الغليظة لتركل قصر الأمل الذي بنيته على رمل الشواطئ المطمئنة؟
قيل لنا في الطفولة إن الدهر يومان. لكنه مجرد لحظة سرعان ما تُطوى ويتوارى لغزها. والذات التي ظننتها ذاتك، هي في الحقيقة طلسم السر الذي لم ينكشف لأحد بعد. فلا تدفن سؤالك، وإذا جاء الشعراء وحدثوك عن الحب، قل: هذا هو المعجزة. وإذا انتبه شرطي ورآك تحدث التماثيل في الحديقة، فاعلم بأنك واحد منهم. وسيُكتبُ عليك أن تحفر اسمك كل يوم على جدارٍ لعل خلودك يبدأ. ولعل في قلب الحجر يختبئ شموخك أمام فكرة الزوال.
الآن والأمس فكرتان ضدان. وأنا وأنت لا ننتمي إلا لما يبقى. للورقة التي تتناهبها أيادي الريح، ولا يعلم مشعلو النار أنها طابع بريد الأبدية. وننتمي إلى المطلق، مثل بقية ذراتنا حين نموت. وننتمي أيضاً إلى الحياة باعتبارنا حلقة الوصل بين أزمانٍ ينتهي تعاقبها من دوننا. نعم، نحن صلة الوجود ببعضه، والحب سُلّم صعودنا لكمالنا، وباب خروجنا من الحيز الضيق الذي اسمه الزمن، ومن الفراغ الشاسع الذي اسمه المكان.
ماذا رأيت بعد أيها السارح في الملكوت بعينٍ مغمضة؟ هل رأيت الخير والشر يلعبان الشطرنج ويتفرجان علينا أنا وأنت ننوب عنهما في حلبة الصراع؟ هل سمعت عن الأوطان التي أحرق جلدها مواطنوها؟ وعن الشجرة التي لها ألف غصن ولكن لا يتعارض بعضها مع بعضها؟
تعال معي لنكتب سيرة العابر باعتباره قاطن اللحظة المتغيرة. ولنسمه مثلا؛ الأنا التائهة. ولنجلس كلانا متقابلين نعضُّ على حسرة مروره بيننا، لأننا لا نملك سلطة أن نمنع النهر من بلوغ مراميه.
وعليك أيها السارح أن تنتظر، لعل الحب يهمس في قلبك وتستريح. ويكون وأدك لصوتك آخر صرخة تبوح بها. ويكون انتماؤك للنهر أول قفزة عشقٍ في المصير الذي، أنا وأنت، على ضفتين متقابلتين واقفان، وكلانا يخشى الغرق فيه.