اعتياد جميل بانتظار ساعي البريد.. هي حالة من طقوس المدن الأميركية اليومي، يتلصصون على خطواته القادمة، وكأنه لا يحمل إلا الفرح، زائراً لعتبات الأبواب، حاملاً من الرسائل والطرود المتوقع والمفاجئ، صناديق مأهولة بالحياة وبالحلم،ما يستحق الانتظار واليقظة. للجيران حالة استشعار بالبريد الآتي، وإذا ما رحل بعض السكان، تمتلئ صناديقهم بالجمود وتسكن، بما يفيض ويتكدس من الرسائل، وتبقى في جوفها حتى تحال عناوينهم الجديدة.
فكم مكثت هناك في افتتان، بل في اقتياد يومي نحو الساعة الثانية عشرة ظهراً، موعد حضور ساعي البريد بسيارة صغيرة، بلونها الأبيض وخطوطها الزرقاء وشعار الصقر الطائر، ولازالت يوميات ساعي البريد تملأ الطرقات، ولم يطرأ أي تغيير عليها، ولازال بأسماله المتوارثة منذ القدم، يحمل قيمه التاريخية وتبعاته الجميلة، يتحدث مع المنتظرين بشفافية المحب لمهنته.
نافذة غرفتي كانت على مسرح الآتي والمطلق من الوقت، تطل على الوجوه المنتظرة.. يصدمك الانتظار أحياناً إذا لم يحمل اليك البريد أياً من رسائل الود، أو الصحف العربية الآتية مع رائحة الخبر المؤجل، لكن لا بد من قراءتها لتجديد الوقت وتجديد الرؤية. أينما يحضر السفر يحضر معه الشغف لقراءة ذلك الكم من الرسائل، يبهجك الخط المفعم بالحياة، وتشعر بالانسجام الذاتي حين تتحدث السطور في خفاء، وتطرب النفس بين النص وإيقاع التأمل، وبين إخفاء الابتسامة وما قد يتبلور في الذاكرة، أو ما يتصور المرء ويتخيل فيما كتب، كما لو مشاهد سينمائية وأحاسيس من الشوق، أو هي محض استنتاجات مفعمة بالطقوس.
صندوق البريد يشبه غرفة أخبار تبث الروايات المختلفة، ترمز لحياة البشرية وقصصهم وفانتازيا كتاباتهم، كأنها تشير إلى تقاليد محكمة وصور تلصق بالرسائل، ودلالات تجدد العلاقة المجتمعية وترمي إلى استمرارية الحياة وخاصيتها ولذة مكنونها.. إنها تنقش حضورها في الجمود المحتمل، وترقى إلى بناء صيغة للعلاقات الجميلة والمحببة.
وتستمر الحياة بذلك الشغف الجميل وبتلك الخاصية المفعمة برسائل الأمس، وبصورة ساعي البريد حين يفد وتقاليده النمطية، ولازالت رسائل الشوق والود تحتفظ ببريقها لا يفسدها الزمن. إنها رسائل الحياة فلا يثنيها الزمن ولا تتجاهلها الانسانية، بل هي بمقام الحدس الرائي للحقب الزمنية، قيمتها لا تتبدد، وتحافظ على عالمها الخاص، حتى ولو بدأ أثرها يقل وينكمش وتزدهر بمقابلها رسائل التواصل الاجتماعية.