في السؤال عن مغزى إسناد العرب الحكمة لأفواه المجانين ترد أكثر من إجابة تدخل أغلبها في باب التأويل، مادام الأخذ لم يوضح مبرره ولا الجماعة التي تداولته سوّغته، فظل مسكوتاً عنه في ثقافتنا الموروثة، ولكن المجنون حاضر هنا بما أنه فم، كناية عن خطابه كله وبعلاقة موضعية: الفم بيت اللسان، واللسان منطق القول، فيجدر بنا البحث عن الكبت الذي يمنع العقلاء من القول فينطق المجنون بما يعتقدون به ولا يجرؤون على إعلانه· حين كنت أهيئ مادة كتابي ''البئر والعسل'' من الحكايات والأخبار والنوادر في التراث المدون، استوقفني ما يجمع تلك المرويات الجنونية من حكمة حفظتها كتب مثل عقلاء المجانين لابن حبيب وأخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي والفصل الخاص بالشعراء الموسوسين في طبقات الشعراء لابن المعتز وباب شعر المجانين في المذاكرة في ألقاب الشعراء للنشابي، بل استرعى خطاب الجنون لغويين كالثعالبي الذي رتّبَ درجاته في الجزء الأول من لباب الآداب من الوسوسة والمس والعته والحمق حتى الجنون التام· ولو استعرنا تفسير ابن خلدون لولع المغلوب بتقليد الغالب اعتقاداً منه بكماله، وتوسيعه للغلبة لتشمل علاقة التلميذ بالأستاذ والابن بالأب والناس بالملوك الذين هم على دينهم! لوضعنا المجنون موضع الغالب للعقلاء بقدرته على قول ما لا يقولون، بل يحلمون به فحسب، وفي مثل هذا قال أدونيس: لا تقولوا جننت/ جنوني أحلامكم· كما وصف (كانتْ) المجنون بالحالم، وبذاك نفسر شطحات الصوفية التي تعبث بمجازات اللغة، فيحيلها المتلقون النسقيون إلى الاستحالة والعته والكفر أحياناً! وهم يخالفون الخطاب العقلي فحسب ليس بخطاب لاعقلي بل بآخر مختلف هو ما استقرت المدارس الحديثة على قياسه وفحصه كنوع ثالث من الخطابات بجانب العقلي واللاعقلي· فالجنون تحكمه أنساق داخلية ومنطق خاص يجدر بالقراءة أن تراعيه ليغدو سياقاً تنحلّ داخله الألغاز والإشارات والرموز وما يتراءى غير معقول في القراءة النسقية، لقد هرع العقلاء مستنجدين بحكمة الجنون (لتنفيس كربهم والبوح بمكنون أنفسهم) بل ادعاه بعض جلساء السلاطين ومسامريهم ليأمنوا شرورهم، ويؤكد اليقين بمعقولية خطاب الجنون أن حكايات الحمقى والممسوسين تأتي ضمن المدونات الخاصة بكلام الفلاسفة والحكماء ككتاب ''حكايات مضحكة'' التي جمعها جمال الدين الملطي المعروف بابن العبري مبتدئاً تصنيف الحكايات بكلام الفلاسفة والحكماء مخصصاً فصولاً لحكايات الحمقى والمجانين يكشف جزء منها عن نقد مضمر يبوح به المجنون كنداء أحدهم في السوق: ''من حرص على الفضل يتعلم أن يقول لا أدري'' والآخر الذي ارتحل مع جماعة فطلب منهم الابتعاد عنه لأنه يريد أن يحدث نفسه، وثالث يطلب من أمير مسرع لبلوغ الحج ألا يجهد القافلة ويطلب تأخير الموسم حتى يصل! عبارات تهيم في فضاء خاص تحيلها قراءاتنا إلى الجنون، وهي تخفي حكماً يحتاجها العقلاء كل زمان!