أعرف أن العصفور يجندل رأسك بالأفكار، وأن الفكرة في رأسك أسرع من جريان الأنهار، وأعظم من غضب الطوفان، ومن وسوسة الشيطان.
أعرف أن ملاءة قلبي ما عادت تكفيك، فقد طالت أغصان الأشجار، ومد البحر لساناً أغرق كل القارات، وكل حضارات الإبهار، أعرف أن الصحراء تخلت عن قيم الأزهار، وأن الأذن البدوية، تناست لغة الأشعار، وأن الأحلام العفوية، قد شاهت حتى شاخت فيها الأدوار، فما عدت فتاتي تلك الوردة الزاهية، بل أنت اللغة المكتوبة بالحبر السري، مزدحمة الأسرار، وهذا سر قنوطك، وهذا أصل جموحك، وهذا ما يجعل فيك غضب الإعصار، وهذا ما يجعل أمطارك حمضية، وأنهارك جدلية، ويجعلك نهاراً غابت فيه الشمس، وتمادت في الهذيان، وتمادت في مد جذور الطوفان.
هذا ما يجعلني أبادر في لف لفيف النسيان، وأغادر منطقة عاثت فيها الجرذان، وتنامت في أحشاء مشاعرها، مخالب شنآن، وأنا في الأصل بدوي، أو قولي من أي مكان، الحب لدي مثل الأوطان، لا تزدهر في ظل ظروف العصيان ولا تنمو لي أوردة ولا شريان، أنا من نسل حضارات جاشت فيها الأشجان، وتحاشت عشقاً، لم تغسله الأنهار من الأوثان، ومن رهط خسارات، ومن أشكال الفقدان.
وأنت، وأنت لا زلت تمارين، وأدرك أني حين أغض البصر بأني عمق الطوفان، وأنك في غيبوبة أزمان، تكتظ بأزمان، وأنك في حلم ما زلت، وما زلت تمتهنين الأكفان.
هذي معضلتي فيك، وفيك تحتشد نوازع بؤسك، وفيك تلتئم الأحزان، وفيك يغادر عطر الزهر، وفيك يكابر زمن الأدران، وفيك تمر جثامين حضارات، وفيك يغتال الشك سنابل حبك، وفيك يفيض الكتمان، وفيك تنوء لغات الدنيا من صهد الجدران.
وأعرف أن خيالك مجذوم، وأن الفكرة في رأسك، مثل الدم المسفوك، وأحلامك من نضح جرار، ثقب الوقت مداها، وأيامك مثل سيول جرفت أحلام الأشجار، ولا زلت تمرين على نهر الأيام، وفي عينيك غبار، وفي قلبك سعار، لا زلت تمرين على الذكرى، وفي معصميك تباريح دوار، لا زلت تمرين بأخبار الأطوار، في معطفَك بقايا بوح غجري ونثار، لا زلت تمرين، وتمرين، ولكن الأسوار هي الأسوار، وأن الغثيان يمرغ فيك تعاليم السدنة، وشعوذة الكهان.
لا زلت تمرين، عبر زقاق كانت فيه أسباب الخفقات، والهفوات، وأسباب الغفوة في مهد الشهوات.