من تلك السطوح التي يقع فيها (منزل) بول شاوول، كان يمكن أن نرى البحر البيروتي بسفنه وقواربه، ساطعاً يزحف نحوك بقدمين حافيتين جرّحتهما الحروب والنكبات. لكن العمارة الضخمة التي نهضت فجأة، وأحالت المشهد الفسيح إلى تهويم وذكرى، وأحاله بول إلى جزء من ذاكرة الأدب الكبير وذاكرة المدينة، في كتب متنوّعة الأنماط والأساليب، شعراً ومسرحاً، نثراً وترجمةً ونقداً، كتباً لا تشبه إلا نفسها وهي تمضي كاسرة أي احتمال أو توقع، صوب أفق مجهول باستمرار. بول الذي يركن إلى روتين الحياة اليومية من منزل السطوح ذاك، إلى المقهى والجريدة، جيئةً وذهاباً، مع قليل من الأسفار وأقل القليل من الأصدقاء، مترحلاً دائماً، يخوض حروبه الخاصة العدمّية على الأرجح، في المخيلة واللغة التي لا تستقر على حال، دائخةً مترنّحةً، من فرط حيويتها وحمولتها الدلاليّة المبحرة وسطَ العَتَمة والهوام وحطام المستقبل. من كتاب إلى آخر منذ مطلع السبعينات وحتى “من غير أثر يذكر”، “دفتر سيجارة”، استطراداً “لمنديل عُطيل” تحس أنك داخل إلى متاه غابيِّ لا رجعة منه إلى حيث انطلقت. خائن الإرث والسلالة وهي الخيانة الموجبة على أي مثقف حقيقي أن يمارسها (ذلك ما فعله مثقفون كثيرون في لبنان)، يواصل بول خيانة السلالة الحيّة المحيطة، هو الماروني القادم من جبل لبنان، يقطن وحيداً منذ مطلع حياته في المناطق التي صُنفت طائفياً بالإسلامية. ظل الشاعر الحر النبيل يسكن لبنانه الخاص الذي حلم به بعيداً عن حروب البغضاء والانحطاط. ظل يسكن هذه المنطقة التي ألفها وأحبها حدَّ التوحد. حتى حين يكون المكان كله محقوناً بنُذر الحرب ومستنقعات الدم، كان يقول: “شوف سيف شو جونا عذْب وحنون”. ظل يسكن تلك العمارة التي سُدت جهتها البحريّة، فحوّل السطح إلى حديقة “حديقة المنفى العالي” كتابه الأخير، الذي “يؤرخ” شعراً وروحاً لهذه الحديقة التي صنعها في الوعي والخيال في واقع أصبح محاصراً من كل الجهات. سلاماً يا بول، وأنت تستعيد حيويتك الروحيّة والجسديّة بعد فترة خروجك من تحت مبضع الجرّاح، نحو منفاك العالي الذي هو جوهر وجودك، وقد صنعَته بدّقة وإحكام، قلعة ًحصينة لا يستطيع الأعداء المدججون اقتحامها. ولنا أن نتخيل وجودك بيننا في المقهى غالباً، وقد أحلتَ الوجود بمنحاه الحسي اليومي أو حتى ذلك المطلق المتعالي، إلى ضحكة محبة ونكتة سوداء عابرة.