هل يكتب الشاعر قصيدته لكي يمحو الكتابة أم لكي يثبتها؟ 2 لأول وهلة، يظهر هذا السؤال إشكالياً.. أي أنه ينطوي على مسألةٍ يشوبها الغموض والتناقض، وعلى مشكلة تثير جدالاً بين متحاورين. فمن البداهة مثلاً أن يكتب الكاتب لكي يثبت الكتابة، وأنّ الشعر مثل أية كتابة أخرى، في المحصّلة، نصّ مكتوب متحقق بين يدي الناس، فالكتابة تبعاً لذلك، مهما كان موضوعها، هي نصّ مكتوب .. وهي إثبات للكتابة ... فما بالنا نسأل السؤال: هل يكتب الشاعر قصيدته لكي يمحو الكتابة أم لكي يكتبها؟ 3 المحو هنا محمول على مستويين: المستوى الأوّل هو مستوى الحذف المقابل للإثبات، والمستوى الثاني هو مستوى الرمز والإلماح، ويتعلق بما يكتنز به ظاهر النصّ من داخل المعنى ومستوره، فقد جاء في الذكر الحكيم - على سبيل المثال - ما يشير إلى طيّ السماء كطيّ السجلّ للكتب. فتكون القصيدة الظاهرة هنا خطّاً بيانياً أو مؤشراً كتابياً من الكلمات لما تستره في داخلها من قصيدة أعمق منها وأبعد، والقارئ مدعوّ لسبر أغوارها والكشف عن أسرارها تبعاً لقدراته وأهليته لمثل هذا الاكتشاف. 4 لجهة تقنية الكتابة يلوح لنا أنّ الحذف لا يقلّ أهميّةٍ عن الإثبات، بل لعلّ الحذف أكثر أهميةً من الإثبات... ذلك أنّ ما يتدفّق من ماء الكتابة في مجرى القصيدة، حين يفتح للشاعر بابُها، هو سيل متلاطم من الكلمات والعبارات والأفكار، تتزاحم على مجرى ضيق، ويكون للشاعر دورُ ضابِط تدفّقِ السيل، وصبّه في المجرى بحيث لا يفيض عنه ولا ينقص عن مجراه في وقت واحد. عملية الضبط والإقصاء والاختيار هنا عمليّة ضرورية بل جوهريّة في صنع القصيدة. وما يُقصى لا يقلّ أهميّة عما يثبت. ولا يحدث ذلك عادةً دونما ألم من الشاعر، بل دونما قسوة، لأنه منحاز تلقائياً لكل ما يتدفق عليه، ففي الإقصاء تضحية وفداء. أما لجهة الإثبات واكتنازه بالمضمر من المعاني والأفكار، فهنا سرّ القصيدة بل سرّ كل كتابة إبداعية مهما كان نوعها. هنا يتدخل الصمت ليكمل نطق القصيدة، ويظهر ذاك الصراع العجيب بين القول واللاقول، بين الظاهر والمستور من طبقات الشعر، وهي طبقات النفس البشريّة على كل حال... وقد سبق لابن الفارض أن قال في هذا المقام: “فكانَ ما كانَ مما لستُ أذكرُهُ فظُنَّ خيراً ولا تسألْ عن الخبرِ”.