في فيلم (سائق التاكسي) في مطلع السبعينيات من القرن الذي أضحى ماضيا.. كان (روبرت دي نيرو) يلعب دور البطولة كسائق تاكسي، دوامه دائما في الليل.. الليل النيويوركي المحتدم بالرغبات والمفاجآت والشاسع بالجرائم وأصناف البشر والجنسيات والأهواء المختلفة كما يليق بواحدة من أكبر مدن العالم. إن لم تكن أكبرها على الإطلاق في تجسيد المدينة الحديثة وما بعد الحديثة وأنماط سلوكها وحريتها ورعبها. كان السائق الليلي في رحلته اليوميّة التي هي رحلة الاكتشاف المستمر لأنماط البشر وتناقضاتهم وأمزجتهم التي تصل حدَّ الشطط والجنون، الذي سينعكس بدوره على السائق كجزء من هذا التكوين الفسيفسائي المتعدد، ويطوّح به إلى الانفصام والقتل والجنون. كان السائق الليلي في غضون الرحلة الليليّة نفسها يتأمل المدينة وبشرها، ويدخل في منولوجاته الهذيانيّة كأحد الشهود على ليل المدينة، مستبطناً على طريقته، دواخلها وخوافيها الناضحة بالغموض والانهيار الذي يلْبد وراء مظاهرها ولافتاتها البراقة والساحرة.. لا يستطيع السائق الليلي أن يتماسك وهو يتأمل ويعيش هذا الفضاء المتلاطم لوضع بشري جارف.. كيف له أن يستطيع، وهو الرجل البسيط الذي يحاول كسب عيشه من هذه المهنة التي قذفه إليها الحظ، أن تكون في الليل، في لجّة الهواجس وغموض الرغبات.. كيف للرجل البسيط، لقد داخ أهل الثقافة والفن أمام دُوار المدينة ومتاهاتها؟.. ترى لو كانت نوبة عمله في النهار، في ضوء النهار الساطع للمدينة الكبيرة، هل سيكون تعرضه للصدمة والانهيار أقل، وتكون فرصة توازنه مع المحيط وتناقضاته احتمال أكبر وأكثر وروداً وأملاً؟! لكن المخرج الأمريكي أراد أن يقذف بطله الرجل البسيط هذا، في خضمّ الليل واحتمالاته الأكثر إثارة وخطراً، ليل المدن خاصة. وأراد له أن يعيش المغامرة بأبعادها وظلالها ووحلها كما لا يُتاح في النهار الذي يسهل رصده والسيطرة عليه أكثر، بالإضافة إلى انه مقام السعي والمعيش والوضوح النسبي أمام ليل الكارثة الذي يلفّع المدن والأرياف المتقدمة والمتخلفة بنسب مختلفة.. لاستقصاء جانب من خوافي السلوك البشري، ليس هناك أكثر غنى من مدينة مثل نيويورك وليلها، خاصة إذا تم إنجاز العمل بمخيلة فنان بارع.. من المشاهد المدهشة على ما أذكر - فلم أرَ الفيلم منذ تلك الفترة، وهي فترة تكون الذاكرة فيها متألقة ويسري تألقها عبر السنين المتراكمة - مشهد المدينة وهي تسطع بليلها العالمي، تحت عواصف الأمطار الغزيرة والبروق؛ نرى السائق الليلي يوغل في هذيانه ويردد عبارة: “لو كان هذا المطر يغسل القلوب والنفوس كما يغسل الشوارع والأرصفة والأشجار لتغيّر أمر العالم”.. هذه العبارة ما زلتُ أتذكرها عبر هذه السنين ورعبها الذي لا يقلّ عن تراكم الرعب الليلي في المدينة العظمى، أتذكرها مع هطول الأمطار في أكثر من مدينة ومكان (آخرها الأمطار في عُمان).. أتذكرها بحميميّة وحنان أقرب إلى السذاجة والبساطة، التي تشبه ملامح تلك الفترة التي شاهدت فيها فيلم (سائق التاكسي).