من أبدع الآيات التي وصف الله بها نفسه بالنور، قوله عزّ وجلّ: “الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاةٍ فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دُرّي يوقد من شجرة مباركة، زيتونةٍ لا شرقيّة ولا غربيّة، يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار..”. وقبل الكلام على ما تحتمله هذه الآية من الأبعاد الدينية والفلسفية والصوفيّة، علينا أن نشير إلى ما نراه في وصف الشجرة المباركة الزيتونة بأنها “لا شرقيّة ولا غربيّة”، وهو وصف ظاهره غامض، لكنّ القصد منه، على الأرجح، عدم تحييز مكان الشجرة أي عدم حصرها بجهة من الجهات الأربع، وذلك شبيه بقوله عزّ وجلّ: “.. فحيثما تولّوا وجوهكم فثمّ وجه لله”. من الناحية الدينية، النور اسم من أسماء الله الحسنى، وهو هنا نقيض الظلمة، إنه نور الخَلْق والهداية. وفي هذه الناحية يشترك الإسلام مع ديانات سابقة عليه. جاء في سفر التكوين (الخليقة): “في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خاوية خالية، وعلى وجه الغَمْرِ ظلام، وقال الله “ليكُنْ نور” فكان نور. وفصل الله بين النور والظلام”. كما أن الديانات الثانوية تضع النور في مواجهة الظلام مثل اعتقاد المجوس بأهورمزدا وأهريمان. من الناحية الفلسفية، النور هو الذي أخرج الوجود والكائنات من ظلمة العدم إلى بيان الوجود. من “القوة إلى الفعل”. أما من الناحية الصوفيّة، فقد حمّل المتصوّفة المسلمون مثل الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه “الفتوحات المكيّة” ورسائله ومولانا جلال الدين الرومي في المثنوي، وفريد الدين العطّار النيسابوري في كتابه “منطق الطير” كلمة النور معاني أبعد من ظاهرها الطبيعي أو الشرعي أو الفلسفي معاً. والنور هنا تبعاً للاجتهاد الصوفي، متصل بالخلق الأول والإشراق. فهناك المعرفة الحسية المتصلة بالحواس والمعرفة العقلية المؤسسة على الملاحظة والتصوّر والافتراض والمعرفة الدينية المتصلة بالنص والمعرفة الفلسفية المتصلة بالعقل والبرهان والمعرفة الصوفية العرفانية المتصلة بالذوق والإشراق.. وهي في عرفهم تتجاوز جميع أنواع المعرفة وأصنافها.. ولدى المتصوّفة نوران: النور الإلهي والنور المحمّدي. يصف العطّار النور المحمّدي في كتابه “منطق الطير” بأنه نور العالم والرحمة للعالمين، وأنه أول ما بدا من عالم الغيب. يقول في نعت سيد المرسلين “نوره أصل كل الموجودات” وهو أيضاً ما يراه ابن عربي في الفتوحات المكيّة. ونرجّح أنه في المصطلح الصوفي، الله هو النور المطلق “الله نور السماوات والأرض” أما النور المحمّدي فمعناه متصل بتقنية الخلق. يعتقدون أنه أول ما خلقه الله، أي الأداة التي عرف بها العالم نفسه. وهذه المعرفة بذاتها رحمة، فالنور المحمدي هو المعرفة والكشف والرحمة معاً. فهو نبي الهدى ونبي الرحمة.