لأنَّ الحوار معدوم، والفكر مهزوم، والإنسان مهضوم، فإنّ ثقافة العُنف، تعتلي جبال المعرفة، وتهشمها صخرة صخرة، حتى تصبح الجبال قاعاً صفصفاً، والمعرفة ماضياً تولى وانقضى، والأوطان ساحة حرب، تدمر فيها المنشآت، وتهدر المكتسبات، وحرائق الذات البشرية، تتجول في الشوارع كأنها الأسطورة المرعبة.
ثقافتنا، هي ثقافة تدميرية تخريبية شائهة، موبوءة بأطنان التراكمات الأثقل وزناً من الجبال الشم.. عندما نشاهد شاباً في مقتبل العمر، تلثم واقتحم الشوارع، بكتلة هائلة من جحيم الغضب، تشعر بالخوف على أوطان جيلها يتشرَّب من ثقافة الهدم ولا يدري أن ما يفعله هو تحطيم للمبادئ الإنسانية، وتهشيم لبُنى وطن كان يجب أن يعيش قوياً متماسكاً وكان يجب أن يتعلم أبناؤه كيف يصنعون ويزرعون ويحرثون الأرض، لا أن يقذفوا الحجارة أو يحرقوا ويكسروا.. تشعر بالفزع لأن أوطان الآخرين قطعت مسافة واسعة في التقدم والرقي، وهي التي كانت تبعد عن حضارتنا الأسطورية بمسافات تجعلها أصغر من حجم الإبرة.. تشعر بالقلق لأن الشرارة الصغيرة يمكن أن تتحول إلى حريق يلتهم الأخضر واليابس ويترك الرغيف الحاف نتفاً صغيرة لا جدوى من التقاطها لأنها اتسخت بالغبار والدخان.
نحن عندما نريد أن نطالب بحقوقنا لا نعرف كيف نطلبها، وعندما نغضب فإننا لا نعرف كيف نغضب لأننا نشأنا على الذاتية المتورمة وتربينا على النرجسية، وتشكلت أخلاقنا على نفي الآخر وإقصائه، وإن شئنا أن نعدمه فلا مانع.. ثقافة مغايرة تماماً لثوابت وضوابط عقيدتنا، ثقافة ربما جاءت من أقاصي الوجدان من تلك الصحراء الجاهلية، التي وعدت عنترة بعبلة، لكنها نبذته في آخر المطاف، ثقافة هيأت الطريق “لولاّدة وابن زيدون” كي يخترقا المحظور، ثم فضحت سيرتهما، ثقافة سايرت الحجاج في بطشه ثم اتهمته بالفجور، كل ذلك جئنا به من التاريخ حتى صار التاريخ المهزوم في داخلنا مساحة واسعة تسكن وجداننا وتستولي علينا، وتحدد بوصلة علاقاتنا رغم مخالفتها لتقاليد عقيدتنا.. صرنا لا نعرف المجادلة بالحسنى، صرنا لا نفهم كيف نعيش إلا إذا غضضنا الجبين، وعقفنا الحاجبين وشخصنا البصر، ومططنا البوز، وقلنا للآخرين نحن ومن بعدنا الطوفان.
هُناك وسائل أكثر حضارية ورقياً في التعبير عن الرأي، وهُناك أدوات أكثر براعة في المطالبة في الحقوق أما أن نقصد إشعال النار في قلب الوطن فتلك وحشية الضواري لا تقدم ولكنها تؤخر الشعوب إلى مسافات في ذيل الأمم المتقدمة.


marafea@emi.ae