الصمت يضم يديه على بوحي، ويخبئ شيئاً من بوح الأيام، يلجم طير الأمس، يقصقص أجنحة الأحلام، ويمضي في الضم، يمضي في اللجم، يمضي في لجلجة الكلمات، ويمضي في زلزلة اللغة، يكسر حاء الحب، ويخذل باءه، يساورني في الإبهام، وأنا في الواقع فاصلة، بل جملة إدغام، كم كثيراً أسرج خيلاً في حالة إظلام، لكن الخيل تلجلج، واستعصى على الفارس أن يثب بلا خَيل ولا سيف زمام، فكل نواصيه خواء، وكل قوافيه ركام، فماذا في الممكن أن يجدي ما دام الصمت يزم سيوفاً، وللخيل صهيل شد لجام البوح، تمادى بالإحجام، ومعارك داحس حامية مثل النار تحت الأقدام، والأشواق محملة بغبار وسعار الأيام، وحضارات الحب تفاهات، وجداول من ماء نفايات، تنضحها أفكار مسبقة، وأحاديث الليل إذ نفشت فيها طيور أبابيل، وعاثت في الأيام جوارح سود.
الصمت يكبل أفئدة الشوق، ويغلل أذرعة الحب، ويخذل شمس الصبح، ويحيق بأحلام الليل، ولا يجزع يكرع من كأس حثالات، ويجرد أشجار الطير من البوح، يتمادى في الفتك، يتمادى في سف حبال الشح، يتمادى في تجفيف الأنهار من لغة الطير، يتمادى في لي ذراع الخفقات، يتمادى في صك صكوك الغفران، يتمادى في تكديس جثث التاريخ في كهف الغفلة، وترصيف الأفكار نخالة قمح، يتمادى في بتر الأفنان مجوناً، وجنوناً، وفنوناً من أشكال البؤس.
الصمت هطول الأمطار الحمضية، وسيول من رجس الذات الهمجية، تلك النكبة تختزل العمر، وتحثو في الوعي ضباب الأبدية وتجز وتحز الأعناق إذا ما رفعت حمماً، وقالت لا لا للصمت، ولا الأشواق الجاهلية.
والصمت يضم، ويهم، ويكمم فاه الأزلية، ويفتح للخيل نجوماً كي تمضي في بطحاء التيه، ويتوه العقل، ويتوه الدرب، ويضيع العطر وسط، مجازات اللغة اللولبية، ويضع الماء المتسرب في ديجور الليل، وفي معركة عبثية، ويضيع الصبح أذ تغشيه غيمات العدمية، والصمت يمر، ويمر في وجدان السهر، وفي حملقة النجمة في وجه الأبدية، ويمر الصمت، يمر في نسق الأفكار، وفي لهج الطير وفي سكنات الأشجار، وفي رفرفة الأوراق، وفي ألوان الزهر، وفي ألحان الريح، وفي نقرات المطر على صومعة غجرية، وفي حكاية السالفين، عن جنية وهمية.