مررت على الغافة، كانت غافية بين الغيمة والماء. وكان الصبح يغسل وجه العشب من أهداب مرت عبر حصير الغيم. وصمت يهطل مثل سحابات الصبح، يخيم بين الغافة والنخلة، ويرتب صوت الطير بأناة، ويهذب وعي الكون، وأنا بين الصمت وتغاريد الطير، تسكنني الفكرة، وشيء من صور، وشيء من أخبار تأتيني عبر مسامات الدهر، وتأتيني الكلمات محملة بالأشواق، مزملة بأحداق امرأة كانت تسقي عشب القلب بدموع، وبريق اللؤلؤتين، كانت تقرأ في عيني الأشواق، وتغض الطرف، وتمضي بلا توق يحيي في القلب سنابل عشب جفت مُذ أن نكص الحلم إلى أيام، ما عادت تحفل بالأشواق، ولا عاد القلب يرف بأجنحة الفرح.
لم تزل الغافة غافية، تتلو قرآن الفجر، وتبث العطر رياحيناً، وتبث الأشواق، والطير الخافق في الآفاق، يدوزن ألحانه، ويرفع للكون نشيد الأحداق.
والغافة غاية، والسر بأن الغافة لا تصحو ألا عند شروق الشمس، وعند بزوغ الأشواق في مهج الطير، وعند نضوب الماء من أعماق الأرض، وعند سطوع الحب في قلب امرأة، يهواها القلب.
فيا ليل الغافة متى الصبح، ومتى تصحو الغافة، كي تنفتح نوافذ قلب امرأة، ويحنو الحب وتصحو الأيام، وتصحو الأحلام، ويصحو البحر، كي يغسلنا من درن الصمت، يطهرنا من شجن الكبت، ويملأنا حلماً أزهى من لون الورد، وأبهى من وجه النجمة وأصفى من ذاكرة الغافة، أعذب من قطرات الغيمة.
عبرت والفكرة ما زالت تعبر بحراً في ذاكرتي، وما زالت تخفق أجنحة، فوق الكلمات، وما زالت تتلو على وجهي خيوط العمر، وتتلو آيات البوح، وأشياء قد مرت، حفرت في الوجه أخاديد، حفرت حرفين من حاء، وباء، وما زالت تحفر في الوجه حروفاً، وظروفاً، وتحفر أنساقاً من زمن الصمت، وتحفر آثاراً من جرح الأيام، وتحفر في مهج الأحلام، هزائم صب ما زالت بعض معاركه تجدل أحزان الأيام، وما زالت في عينيه أحاديث الفقدان، وما زالت في الأحداق تخبء تلك الأيام جنون الفطرة، وعطر العفوية، وما دارت في خلد الغافة من أشجان الوجد، ووجود التحنان.
ومررت بلا جدوى، والحيف يلاحقني، والفقدان يسوم الغافة، ضيماً، وأنا في عمر الأيام، قصاصة ورق، تاهت في صبوة ريح، أو غفلة وعي، أو ثورة بركان، سجرت بحر الشوق، فانشق البحر، وعصت فرعون طواغيت الأيام.