تستوقفنا في قراءة مجموعة “منذ أول تفاحة” للشاعر محمد خضر قصيدة “لوحة من خيوط الصوف” التي تقترح نهاية شعرية لانتظار بنيلوبي الطويل لزوجها أوديسيس متعللة في رفض خطّابها بالصوف الذي تنقضه كل ليلة قبل أن يكتمل. لا تقوم القصيدة باجترار وقائع الأسطورة بل تعدّل من مجرى أحداثها باستخدام آلية الانزياح عن المتن الأسطوري لصالح مبنى القصيدة وبنيتها النصيّة؛ ولتثبيت حضور الشاعر. تعمل التفاحة الأولى في عنوان المجموعة كواحد من مواجهات القراءة، لاشتراكها مع النص في استعارة الرموز واسترجاعها، فهي تحيل إلى الخطيئة الأولى والنزول النهائي للبشر في صراع وجودهم وتضاريس حياتهم اللاحقة وصلتهم بالمرأة شريكا مصيريا متعينا في ثنائية الموت والحياة. ومما يؤكد هذه التهيئة الرمزية التي يقوم بها العنوان، كون المجموعة لا تضم نصا بالعنوان ذاته. فهو يؤدي هنا وظيفة إطارية في المقام الأول، وحافزا على الدخول في الجو الأسطوري الذي تتطلبه قراءة (لوحة من خيوط الصوف). تبدأ القصيدة من أوديسيس الذي (بحث عن الصوف الذهبي) في مهمة مقابلة لصوف زوجته الذي يختزل صبرها وانتظارها. بقاؤها بعدم اكتماله، ومثل قصّ الليالي العربية: بقاء شهرزاد في عدم انتهاء سردها. وكذلك عودة أوديسيس في القصيدة: قال لبنيلوبي (سأعود يا حبيبتي ذات يوم) بينما (قضت عمراً في الانتظار) مفكرةً في غياب زوجها وابنها الذي يكبر؛ فتكبر معه الأسئلة. تأخذ بنلوبي النصف الأهم من القصيدة كما هي في الأسطورة، لذا جرى التحرك صوب النهاية من خلالها، وتم تحديد المصائر سردياً من وجهة نظرها. تفكر في جمالها والعمر الوردي المسروق. تشارف القصيدة على النهاية بجملة خبرية تمهد للخاتمة: أوديسيس تأخر كثيراً، والحياة في الانتظار مضيعةٌ للوقت. هكذا قيل لبنلوبي فانتهت لوحة الصوف (ولم يعد أوديسيس إلى الأبد!). تهبنا القراءة التعرفَ على مركزية السرد في بؤرة النص، والالتزام بالخط المتنامي للحدث. العودة المقترَحة لأوديسيس ستُرسم بصبر، ودخولٍ هادئ ظاهريا: لغة بسيطة المفردات والتراكيب وجُملٍ قصيرة، لكنها تخفي توترها في تنامي الحدث، عبر تحوير الأسطورة. ينزاح مجيء أوديسيس عن مصيره الأسطوري وعودته منتصرا رغم غضب الآلهة وتأخره سنوات في طريقه إلى إيثاكا، في النسخة الشعرية تتسع القصيدة لتضم فعل العودة، ولكن حيث يكمن الانزياح. لم يعد أوديسيس. القصيدة تطارده بلعنة الآلهة، وانتقاما لعمْر بنلوبي المضيَّع انتظاراً، ولخيوط صوفها الذهبي المفقود. لوحة مصنوعة من الصبر الذي تستدعيه الحائكة المنتظِرة في خيوط صوفها التي تتكاثف، وتخلق تعلّاتها هرباً من وعد خطّابها وعشّاقها. لكن السرد الذي تتيحه قصيدة النثر سيسمح للشاعر باقتراح شخصي يجعل غياب أوديسيس أبدياً. بلا عودة. أخيراً يأخذنا التناص لمصدر ثانٍ توازي فيه قصيدة محمد خضر قصيدةَ اليوناني يانيس ريتسوس التي تجسم خيبة أمل الزوجة المنتظرة، بعد أن وصل زوجها أوديسيس إلى إيثاكا. عاد أشيبَ كهلاً ملطّخاً بدماء عشاقها الذين اجتز رؤوسهم، فنفرتْ منه، وتساءلتْ إن كان هذا يستحق كل ذلك الانتظار.