تنبأت لي منذ الصغر، وقلت يا ولدي ستصبح مثل المطر، تغزل خيوط الشمس سحابات، وترسم للبحر عيوناً، رموشها من نسق الأحلام الزاهية، ومن فيض الفكر. ها أنا أخطو الآن أولى خطواتي على أديم لا فيه ماء، ولا فيه عبق الزهر، كل شيء يمضي بين أصابعي، مثل ماء مدر، وعندما أستدعي الذاكرة، أقول كيف لها كل هذا الخيال، وكل هذا الكذب المستتر، كيف لها كل هذا النضوح من آنية، نزيفها ملح أجاج وخدر. ثملت، وكان الكأس فاك، وكنت الشظف المتشظي، وكنت المستعر.
كنت في صياغة الكلام، مثل شاعر مفوه، لكنه كذاب أشر، ومع كل ذلك كان عقلي الصغير، ينصت وينتشي لشراب الكأس المتحدر من الحضارات الأزلية، والكذب والفكر، وانسال اللاشعور المبهر، والمفتقر لكل أشكال الصدق، وأشكال البوح الحميمي المزدهر.
كان التاريخ يمر عبرك مثل الغبار في سجادة الصلاة، مثل التلاوة أثناء الغفوة، مثل الهفوة في ثنايا الكلام المنمق، مثل غفلة الصائم ساعة ضجيج الذاكرة، وامتصاصة قطرات السكر في طبق السحور الفائت. كان بوحك سرد الأشجار للطير، عن أمنيات الازدهار لربيع لا يأتي، لِغَد عشبي في وضح الصيف القائظ. كانت دموعك وأنت تغرفين من صحن الأوهام، مثل جدول ضيق انهمر من مستنقع، فمر على شفتي، فشعرت بذبول الزمان، رغم محاولاتك الزائفة في التزيين والتلحين والتلوين والتضمين والتخمين، كنت على شفا حفرة من الانفجار وأنا أرزح تحت وطأة الأنين، كان لأنينك، وصمة الانحطاط لأناي، وبصمة قاتمة ملأت وعائي المزدحم بالنكسات وخذلان الأيام. كنت أقرأ في وجهك كذب الذين طوقوك بحبل المسد، وأعلنوا فك رباط الفكرة لديك، لتبقين في التلقين مثل شريط غرسه أعمى، في أحشاء آلة التسجيل، ولم يستدل مكانه لاستبداله بآخر.
كنت في اليقين، عندما كنت ترددين النشيد برتابة، وتمضغين الكلمات مثل حشائش يابسة، وتجترين الفكرة تلو الفكرة، وبلا هوادة، وأنا أصيغ السمع لفكرة الوجود، وما بيننا، كان البحر يشق لسان اللغة، ولم أستطع النظر إليك وأنت في الغمار تمخرين عباباً وبحاراً. كنت على يقين من أنك محفورة بقيد، وكيد الذين لوّنوا الأوهام بالإدغام، وسكنوا في الذاكرة مثل الصدأ، واحتلوا مكان الصدارة في رسم لوحات تشكيلية من غناء الببغاوات.