الكثير من الناس يتحدثون كثيراً، ولا يقولون شيئاً. لأن هؤلاء منبثقون من فراغ الكلمات، قادمون من ذروة النهايات، هؤلاء حطوا رحالهم على أرض بطحاء، بعد أن هبّت رياحهم من جهة الحماقة. هؤلاء لا ينصتون لقول، ولا يستمعون لكلمة، لأنهم لو حاولوا الاستماع فلن يسمعوا، لأنهم يقعون تحت ضجيج ماكينة العقل المشوش، بأفكار راسخة في عقولهم، مثل الصدأ على قضبان الحديد.
هؤلاء ليس لديهم ما يخسرونه، لو فاتهم قطار معرفة معلومة معينة، لأنهم نشأوا على البقاء في مؤخرة العربة، ولا يسمعون إلا صوت عجلات عقولهم، وهي تطحن أرض الخيال الجم بإنهاك وتعب. هؤلاء منشغلون بقضية جوهرية بالنسبة لهم، وهي كيف نستطيع أن نكون مختلفين؟ ويستمر العناء لديهم حتى آخر العمر، دون تبديل أو تغيير، في واقع الحال، لأن الذي لا يسمع للآخر، لا يتغير، فالحياة رحلة طويلة كما تقول (ألغيتا)، وفي الرحلة تتفجر تجارب وخبرات ومفاهيم ومعارف، يكتسبها الإنسان من خلال مصاحبة اللئيم والحليم، وعلى ضوئها تبرز لديه الفكرة التي يختارها، سواء كانت نيرة ومضيئة أو قاتمة سوداوية. الضوضاء في الرأس، مثل الجدار السميك، فكما يمنع الجدار الهواء النقي إلى الجسد، تمنع الضوضاء وصول الفكرة النقية إلى الذهن.
في حياتنا اليومية، نشاهد في البيوت أو المجالس، أو في أي مكان عام، لو تواجد عشرة أشخاص، فسوف نجد هؤلاء جميعاً يتحدثون، وترتفع الأصوات إلى درجة أنك لا تسمع أصواتاً، بقدر ما يخترق أذنيك هدير أمواج هائجة، لا تجعلك تفهم شيئاً، وإنما تصطدم بعواصف صوتية، مثل تلك التي تحدث في المناجر أو مطاحن الدقيق، أنك لا تسمع شيئاً، لأنك مشغول بالضجيج، أكثر من انشغالك بالمعلومة أو الخبر، إنك في هذه الحالة مأزوم في الضجيج لا غير، ومن يحشر في الضجيج لن يصل إلى الاستنارة، لأن ما بين الضجيج والضباب إخوة قديمة، فكلاهما يمنع الرؤية، كما يمنع الوصول إلى الهدف.
الآن في عالم الجري حول النقطة الصغيرة، يبدو الوعي مثل حشرة أغلق عليها قمع زجاجة، وبقيت في الحبس الانفرادي حتى آخر نفس. الآن أصبح العقل لا يهتم كثيراً بما تفوه به الوردة، وبذلك أصبح منعزلاً عن الحقيقة، غارقاً في الوهم، ومن لا يهتم بالشيء لا يحبه، ومن لا يحب الشيء يعيش بعيداً عنه، وبالتالي يعيشان في الوجود بلا وجود.