الطاولات والكراسي، الكؤوس والشوك والملاعق، الأسّرة والأغطية، تتغير في أوقات مختلفة في اليوم الواحد. العمال والنُدل، مباشري النشاط الوظيفي في الفنادق، يهرعون من الصباح الباكر عبر الحافلات والسيارات والقطارات، إلى مباشرة أعمالهم وتأدية الواجب المناط على عاتقهم، لتسلم المرتبات آخر الأسبوع أو الشهر. جيش الموظفين يهرع كل صباح وكل مساء.. وجيوش السيّاح والوافدين على المدن والفنادق، المطاعم والمقاهي، يَفدون في كل الأوقات من بلدانهم البعيدة والقريبة لدوافع مختلفة. مدفوعين في الأساس بحلم التغيير والتجديد من حياة أضحتْ خانقة وضاق أفقها مهما كان واسعا ذي قبل، جعلته العادة والنمط لا يطاق ولا بد من كسر جموده. وذلك لا يتأتى إلا بالسفر والترحل إلى بلد آخر وطقس آخر. وغالباً يقع هذا البلد وهذا الطقس، خارج الحدود الجمركيّة والسياديّة للأوطان التي تربي الفرد والجماعة على أناشيدها وثقافتها، من أكل وشرب وتاريخ وجغرافيا، في الواقع والمتخيّل المثالي الذي تحتاج إليه الأوطان المختلفة لحقن مواطنيها وسكانها وشعوبها بجرعات الولاء والصِلة والمصير. يتوافد السياح والمسافرون عبر عَتمات الدروب الطويلة التي يمتد طولها لخمس عشر ساعة وأقل وأكثر، متحملين مشقة الطرق الجويّة المتقلبّة والبريّة الصعبة التي تمتد لأيام وليال لا ينام فيها المترحل والمسافر إلا خِلسات كرى مُنتزعة من غابة الهواجس والتوقعّات.. ليس للمسافر من حدود لأحلامه، فهو يريد أن يفترس المسافة والمتعة قبل أن يفترسه الزمن وتقلب الأحوال.. هناك من بلغ عِتيّا من تراكم سنوات العمر، تراه أكثر نشاطاً في تكديس أحلام المسرّات والمناظر المبهجة للنفس، وما تبقى من حياة. وغالباً هؤلاء من الأقوام الأوربيّة ذات القامة الحضاريّة العالية التي تحسب لكل مرحلة من العمر حسابها الخاص. أما الأقوام الأخرى التي يسحقها العوز وخراب الأحوال، فالأمر لديها على عكس ذلك تماماً.. السفر بالنسبة لمعظمها، هو الرحلة اليوميّة في البحث عن لقمة العيش أو (الستر) ستر العراء الوحشي الذي ترفس في أتونه، هذه الشعوب.. في الأماكن المختلفة من العالم، في برهة العصر الذي نعيش، تستقبل هذه الاأماكن المخصصّة، زوارها ومريديها وتستقبل عشّاقها ومحبيها، كل بمزاجه وتصوره الثقافي، للرحلة والتغيير. تتجدد دورة الحياة براً وجواً وبحراً حتى توشك على الانفجار من فرط الحركة وكثافتها معلنة كل لحظة حبلى بالتغير العاصف.. كل لحظة جديدة وكل موت قديم.. *** أيهما أكثر فظاعةً ووحشةً؟ صحارى الصقيع الجليديّة أم صحارى القيامة الرملية؟ القطب الجنوبي أم الربع الخالي؟ الأجدر أن نوّجه السؤال إلى حفّاري الأعماق البشريّة، أولئك المتألمين بقسوةٍ عبر التاريخ.