اللقاء الذي شهدته أبوظبي في المجمع الثقافي عن قصيدة النثر: شعريتها وتلقيها والأفق المستقبلي لها أشار إلى ظواهر ثقافية مهمة يجدر بنا ـ لاسيما وقد شاركتُ في أعمال ذلك اللقاء ـ أن نقرأ دلالاتها ونتأمل مغزاها· لقد كنا نتحدث عن تلقي قصيدة النثر بينما كان الحضور شحيحا وفراغ الكراسي يؤكد ببلاغة وإيجاز تلك العزلة التي تعانيها القصيدة الحديثة في إطار التلقي الذي أسماه القيّمون على اللقاء حجابا واقترحت وصفه بالجدار، لأن الحجاب يشف ويسمح بالرؤية لكن الجدار يفصل ويعزل ويمنع التواصل· الفراغ الرمزي في القاعة يعززه فراغ آخر: كثير من شعراء القصيدة النثرية أنفسهم غابوا عن اللقاء وكأن الأمر لا يعنيهم، وحضر جمهور متنوع تفاوتت مناقشاته بين العودة إلى أساسيات وأبجديات تتعلق بالوزن والقافية كغائبين عن النص وبذا يسقط منه شرط الموسيقى اللازمة للشعر والملازمة له في الذاكرة وفي المفهوم المتداول، وأخرى ـ وهي الأقل ـ أثارت مشكلات معرفية وفنية جادة حول تداوليتها وكتابتها وأجيالها ونقدها· ذلك الفراغ لا يشجعنا على إلقاء المسؤولية على القصيدة نفسها أو شعرائها فالتجارب الشعرية أوغلت في حداثتها واستمرت وتزايدت منابرها ومناسباتها وإصداراتها، ونالت الاعتراف حتى من جهات رسمية وأكاديمية ومؤسسات لم يكن من السهل قبولها للتحديث التام الذي تعلنه قصيدة النثر· لكن المعضلة الأساسية في ظني تكمن في التلقي والتربية الشعرية والثقافية للقراء الذين لا ينطبق عليهم القول الشائع بأن داخلَ كل قارئ شعر قارئَ نثر، وظل النظر إلى القصيدة محدداً بكونها تندرج في النوع الشعري العام بتكريسها لثوابت إيقاعية أرساها الخطاب الشعري العربي والجسم المتين والكثيف الذي تكوّن عبر تراكم الكتابة منذ قرون· يقرأ المتلقي قصيدة النثر بجهاز واحد لا يتغير وفق منطلقاتها الفنية واستراتيجياتها المختلفة التي تمنح النص فرصة القول بلا تكرار واجترار، وتصبح كل كتابة مسؤولية شخصية منوطة بالشاعر نفسه لا بفريق يتعصب له أو يندرج في تعداده قبلياً، وذلك لا يبرئ قصيدة النثر المعاصرة من الخطايا التي ورثت بعضها من الحماسة التي مثلتها مجلة ''شعر'' وتفاوت مرتكزاتها النظرية ومبرراتها، وميل بعض كتابها إلى التقليد وتكرار التجارب، والوقوع في الأخطاء التي تسمح بالاعتراضات الذوقية والاتهامات بالتجهيل، وإذا كان الجمهور المتلقي لا يمنح قصيدة النثر أحيانا فرصة للوجود ويقصيها من لائحة الشعر، فإن رد فعل مقابلا لا يقل عنه ضررا لمسناه في الحديث عن التلقي كفعل قراءة وممارسة نصية تقبلية مما يعكس زهد بعض الشعراء بالتلقي والصلة بالمتلقي نفسه لا الجمهور ككتلة ذوقية تكرر أعرافاً مستقرة وتدافع عنها غريزيا وبدوافع لا يبتعد بعضها عن الشعارات والخوف على التراث والهوية·· وتظل لنا أخيرا فسحة الحلم بقراءة لا يجيب فيها فراغ الكراسي عن سؤال التلقي وحضور القصيدة·