لا يحتاج نيلسون مانديلا، المناضل والسجين السابق وأول رئيس منتخب لجمهورية جنوب أفريقيا، لمن يلمع اسمه، أو يكرّس ذكراه، أو يضع تاج الحرية فوق رأسه· فثمانية عشر عاما خلف قضبان جزيرة روبين قبالة كيب تاون، أعطت للبطل الأفريقي الاسم المشع والذكرى الخالدة وعلم الحرية الخفاق· لكن هذا التاريخ الشخصي (والعام) كله، يبدو أنه يمثل ''مصنعا'' نموذجيا لمن يريد إعادة تدوير التاريخ والمتاجرة به· فقد أصبح مانديلا ضحية مرة أخرى، ولكن على أيدي صنّاع مهرة، وتجار خبراء في ''البيزنس''· ففي بريطانيا، وكما ذكرت صحيفة ''الجارديان''، يقوم معرض بيلجرافيا الفني ببيع قطع حجرية مطبوع عليها نقوش يقال أن مانديلا صنعها خلال زيارة إلى معتقله السابق قام بها في العام ·2002 وقد أعطى الزعيم الأفريقي تعليمات لمحاميه لمقاضاة القائمين على المعرض ومنعهم من تسويق أو توزيع أو بيع الأعمال الفنية المرتبطة باسمه· وبقدر بشاعة استغلال اسم رمز مكافحة التمييز العنصري، فإن البشاعة تتبدى أيضا عند من يحوز على ''قطعة من التاريخ'' سواء كانت أصلية أم مزورة، يعرضها وكأنه مشارك في الصناعة·· صناعة التاريخ، وليس صناعة ذكراه ودروسه وعبره· وهذه الصناعة مغرية لكثيرين بمدلولها وبمردودها· فهناك الكثير من المزورين، وهناك الكثير مما يمكن تزويره· قبل ثلاثة عقود، في مطالع الثمانينات، أعلنت صحيفة ''درشبيجل'' الألمانية، عن البدء بنشر مذكرات مكتشفة حديثا للزعيم النازي أدولف هتلر· حققت الحلقتين الأولى والثانية، رواجا غير مسبوق للصحيفة، وقبل نشر الحلقة الثالثة أراد أستاذ تاريخ أن يطلع على أصول المذكرات، وبعد أبحاث أجراها، اكتشف أن عامل بناء كتب المذكرات بنفسه على ورق قديم، ودسها أسفل أساسات إحدى البنايات التي يعمل بها·· ما شكل فضيحة مدوية، للصحيفة ولجهود تدوين مرحلة أساسية من التاريخ الألماني الحديث· هذه الخفة في توثيق تاريخ الشعوب والأمم، بما يحتويه من معارك ومحطات وتجليات وسير الرجال المؤسسين، ما زالت تفرض شرورها على أغلب الكتابات التي تدعي الإختصاص في هذا الحقل· ومن يتفحص الأعمال التاريخية (الأكاديمية أو الدرامية)، خصوصا ما يتعلق منها بسير الرجال، يقع على كم كبير من الحكايات المدسوسة والتهفيت المتعمد أو التمجيد المبالغ فيه· هناك من يهمش أسماء كان لها أثرها في الذاكرة الجماعية، وهناك من ''يخترع'' تاريخا لشخصيات عامة، لن يضير ذكراها أن تعفى من مثل تلك الاختراعات· يتعامل البعض مع هذا النوع من الكتابة، بمثل سهولة الحصول على بطاقة بريدية موقعة بخط يد الأميرة ديانا، أو فستان سهرة ارتدته مارلين مونرو·· ولو اختصر تاريخ البشر ببطاقة بريدية أو بفستان سهرة، أو حتى بحجر يحمل توقيع نيلسون مانديلا، لأعفت البشرية نفسها من كل الصراعات السابقة واللاحقة· adelk85@hotmail.com