في مطلع الأصياف دائماً، وهي تبسط حضورها وهيمنتها على مجرى حياة البشر، وعلى المفارق والطرقات، في القرى والمدن، في السهول والجبال والصحارى، ترى النخل مفرداً وجماعات تتدلى بعراجينها الخضراء، باسقة ًمهيبة ًوعلى نحوِ من تأمل وشرود. النخلة تلك الشجرة المباركة، التي غرست ونمت فوق تراب الأساطير والقداسة منذ سحيق الأزمان، باركتها الكتب السماوية جميعها وفي مقدمتها القرآن الكريم، وباركها الإنسان وهي تمنحه الغذاء الجسدي والروحي، صامدةً أمام أعتى العواصف والسيول والاقتلاعات. النخلة ترفض الهجرة ومغادرة المكان الأول وتراب الأسلاف، مهما كانت قسوته ومكابدته.. وحين رآها عبدالرحمن الداخل (صقر قريش) في رصافة مملكته الأندلسيّة، الوارفة بالنعمة والعطاء البديل عن منبت أراضي الأجداد التي شرّدته على ذلك النحو الفاجعي. رغم ذلك رأى في مرآتها المضرجّة بدم النأي والبعاد، روحه المغتربة، فتوّحد مع روحها التي قرأ فيها مفردات المنفى وهجران الأحبة الأوائل.. “تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة تنادت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلت شبيهي في التعّرب والنوى وطول اغترابي عن بنيّ وعن أهلي نشأت بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الاقصاء والمنتأ مثلي” هذه الأبيات الفريدة في لوعة الفراق وفي المستوى الجمالي الرفيع.. تُرى أي سطوة لا تُقاوم ولا تُعوض حتى بحجم وبذخ الجنّة الأندلسيّة للصقر الأموي؟ أي جاذبيّة ما ورائيّة لأرض الطفولات التي تجعل الشعر يتدفق بمثل هذا العمق الروحي والطراء الفني الذي لا يقهره الزمان، الذي قهر الاندلس وذلك الفاتح والمؤسّس التراجيدي؟! *** من منا لم يكن ذا صِلة عضويّة بالنخلة وحقل الأشجار الذي يحيط المنزل على حواف الوادي الخصيب. أو على منحدر الوديان حيث تُشـْرف كثبان النخل على الهاوية البعيدة الغور، كأنما تحرس الحياة من الغَرَق أو الانزلاق إلى القعر المظلم.. تلك الكثبان التي تشكل مع أرخبيل النخيل المجاور نسيج ماضٍ يرفض الامحاء والنسيان. ويقاوم سطوة الأزمنة الرمليّة الزاحفة على الأخضر واليابس. *** وماذا عن النخلة الوحيدة في سفح الجبل أو على مدخل الوادي والقرية، وحيدة، منفصلة عن أسراب النخيل، وهي تقاوم عاديات الرياح والخلاء الدموي للوحدة والهجران؟ هل كانت في مثل هذه الأزمات العاتية تستمد حلماً من روح الجماعات النخليّة، وتسري في أوصالها رعشة التضامن والحنان؟ أم أن هذا الاختبار الصعب يمنحها فائض قوة لا مرئية لمواجهة البقاء والتحدي كنغمةٍ شريدة في خضّم إعصار.