مر عام وجاء عام، ونحن ندخل الأعوام مثل حطابين نبحث عن حبة الحياة، نحن مثل سمكة تبحث عن علقة تسد الرمق. مر عام بدمائه وبلوائه وتفاصيله المعقدة، وحيثيات شؤونه المبعثرة بين السلب والإيجاب. عام ذهب ومعه أخذ أحباباً وأصحاباً، وعلى حصاه تعثرت أوطان، وتبعثرت أشجان، وتشظت أكباد، وتلظت أفئدة، واحتدمت مفاصل، واضطربت فواصل. عام مر مثل قطار منهك مر مجلجلاً، والركاب ينتظرون إذن الدخول إلى الهوة المهيبة، ويعبثون في حقائب السفر البعيد، منشغلين بهموم السفر وما يتلوه من تبعات الرحلة الطويلة. عام مر كأنه الزلزلة، أطاحت آمالاً، وهزمت أمنيات، وحطمت جدران، وهشمت أغصان، وتساقطت الكثير من الأوراق، حتى بدت بعض الحقول جرداء صفراء من غير رمق. عام مر وأسئلة كثيرة على لسان الطير، لم تجب عليها موجة البحر، ولم تبلل ريقها غيمة السماء. عام مر كسحابة بلا مطر، كموسم بلا ثمر، كرقية من السحر، كجمرة أحرقت أصابع الحجر، كبقعة رمادية على جسد امرأة أتعبها الانتظار. عام مر كان مزنجلاً بأطواق وأبواق، لم تدع الهواء النظيف يدلف إلى رئة الواقفين على رصيف الحلم، ولم تترك للطير أن يحلق في السماء، ويرفع النشيد عالياً. عام مر واليمن لم يزل يئن تحت وطأة الأخف الثقيلة، حيث الحوثي رمة التاريخ، تنخر في العظم وتنهش اللحم. عام مر ولم يزل اليمن يطرح سؤاله القديم، لماذا تتحول الطائفة إلى ناب ومخلب؟ ولماذا لا يرتاح الإنسان هناك من التصنيف، وتجويف الوطن، وتحريف التزاماته الأخلاقية، وتجريف أشجار قيمه، بحيث انحصرت في مشنقة الطائفة. عام مر ولم تزل سوريا في قبضة الخوف، وتحت سطوة المشاعر المدمرة، وتسأل عن تاريخ لم يعد حاضراً، وعن جغرافيا أنهكها الانتهاك، والاستهلاك المقزز. عام مر وليبيا تأسف على ماضٍ لم يكن جميلاً، لم يكن بلا لون، عام مر والصومال سقط عنه كتاب التاريخ في زرقة البحر الأحمر، ويبدو أنه تلقفته يد قرصان أحمق، عام مر والعراق الحبيب لم تنخفض بعد درجة حرارته أثر حمى داهمته لسنوات، ولم يزل يعاني من فساد مفاصله، وبعض الهضات هنا وهناك. عام مر ونحن برغم كل هذه الرضات العنيفة، إلا أننا نقول الحياة أقوى من الموت، فالموت حطاب، والغابة خالدة. فهذه الأمة، وإن شاخ نخيلها، فإنها تبقى واقفة، فالمغول فعلوا ما فعلوا، وغيرهم من الشرق والغرب، ولكن عادت الأنهار تجري برغم السدود والحدود، لأننا أمة خلقت لتحيا، لا لتموت. ستمر الرياح طالما بقيت النوافذ مفتوحة على أزهار الحقل، وطالما بقي العطر إنسانياً، لا ينتمي إلى زهرة أو بذرة. عام مر، ويأتي عام محملاً برسائل، تمنح المتشوقين الأمل بأن الحياة جميلة، ولن يغير لونها غبار الخيول المسعورة.