الإرادة وليدة الآخر، والعقل من نبت الفطرة، تتعارض الإرادتان دائماً، فإرادة الإرادة، تريدك كما تتطلع إليه من مجد، وإرادة العقل تنحو نحو الفطرة، وهنا ينبع الصراع الأزلي، الذي يأخذ مركب الفرد، نحو تصادم الإرادتين، ونحو الحروب البدائية، فمن يملك قيادة العربة، ليعبر بها المحيط، ويصل إلى الشاطئ من دون خسائر. لكن طالما وجد الصراع، فلا بد من سطوة إرادة على الأخرى، ولابد من وقوع ضحايا في الطريق إلى الحياة.
من يستولي على عقلك الآخر، فإنه يذهب بك إلى جبال عالية، تسقطك من عَل ودون هوادة، ولا تجد نفسك إلا وأنت مثخن الجراح، وتسكن هذه الجراح في أعماق النفس، وتظل تطاردك إلى مدى الحياة، ولا تنجو من العقد النفسية، التي تحولك إلى كائن مشوه، فتكون أنت ليس أنت، بل أنت هم، ذلك الشخص الذي يحمل وجهاً غير وجهه. فوجهك هذا ليس وجهك، إنه وجه الآخر الذي استعرته ذات لحظة مباغتة، فأصبحت الشجرة الناتئة بين أشجار أخرى، لا تمت لك بصلة، الأمر الذي يجعلك تواجه الحياة بالشك والريبة والعجز، والنكوص دوماً إلى مراحل ما قبل الفراغ. أنت في قبعة الآخر مثل غزالة برية، في غابة موحشة، تحاول أن تبني قوقعتك من قش الأوهام، تحاول أن تتشبه بالنمر أو الأسد، فتصبح غزالاً بمخالب الأسد، ولكن عندما تواجه مشكلة قد تعترضك في الطريق، لا تفهم كيف تستخدم تلك المخالب، فتضطر إلى خلع المخالب، وما إن تفعل ذلك، حتى يأتيك الأسد أو النمر، فينقضان عليك، وتصبح عصفاً مأكولاً، تصبح لا شيء، تصبح في الحياة عقلاً بلا إرادة، أو إرادة بلا عقل.
ويصدق هنا كلام روسو الذي أشار إلى الإنسان في حقيقته، ابن الفطرة، ومتى ما زاغ بصره، واشتد وطيسه، وارتمى في أحضان إرادة الآخر، فإنه كمن يخلع معطفه في جو قارس، فيموت من شديد البرودة.
الفطرة هي الطوق الذي يحمي الإنسان من نوازع إرادة الآخر، وهي الجدار الذي يمنع قصف الريح، وعصف الأهوال كي لا تطيح بكيانك الإنساني. فالآخر مثلاً يريدك أن تصبح مهندساً وأنت عقلك معلق بالاهتمامات الطبية، ولو فعلت ما يريده الآخر، فسوف تخسر ملكاتك، ولو طاوعت فطرتك العقلية، فسوف تواجه نقمة الآخر، وأنت ما بين بين، مرهون بما تملكه من إرادة فردية، تبعدك عن حفرة الندم والإحساس بالفقدان.