ونحن نستقبل شهر رمضان بالترحاب والصوم والصلاة والذكر الكريم، ويغمر نفوسنا البشر والطمأنينة والرخاء. ونحن نتابع البرامج المتنوعة المخصصة للشهر الفضيل في محطات الفضاء، بعد أن نتابع وقائع الأحداث السياسية في العالم، وما يجري فيها من مذابح، ودمار وموت، فنستشعر الحزن والعجز والألم. ونحن نتابع الندوات التي تقيمها جمعيات النفع العام. ونحن نتابع المسلسلات التي تبثها الفضائيات العربية في شهر رمضان،. وتشيع في نفوسنا الراحة لقصر أوقات الدوام وطول أوقات السهرات في مساءات رمضان. ونحن نطمئن أنفسنا بتأجيل الكثير من المشاريع الضرورية والخدمات بكافة مستوياتها لما بعد العيد!..
بكل هذا نعبر عن احتفائنا بالشهر الفضيل، وعن رغبتنا في قضائه بالخير والمنفعة والغفران. وإذا كان الصوم والصلاة والذكر هم وسيلة التقرب لله تعالى واكتساب غفرانه ورحمته الواسعة في هذا الشهر الكريم.. فإن الزكاة وبذل الخير والتواصل والتكافل بين الناس قريبهم وبعيدهم، هي من أهم دعائمه وأسسه، فجوهر معناه يكمن في إطلاق طاقة الروح والعقل من كثافة المادة. إذ أن بهذا الإطلاق يدرك المخلوق عظمة الخالق.
إلا أن من أشد الظواهر في طرق الاحتفاء بشهر رمضان، هي تخزين الأطعمة وتكديس الأطنان منها في ثلاجات البيوت وخزائنها، كما تخزينها في البطون حد التخمة. فمشهد الناس في الجمعيات التعاونية والأسواق ومحلات بيع الأغذية وهي تدفع بعربات التحميل المكتظة، توحي للمشاهد بأن حرباً توشك، بين ليلة وضحاها. هذه الحروب التي يعلم الله وحده، كيف يستقبل أهلها شهر رمضان، في فلسطين والعراق وسوريا والسودان وهم على جبهة قتال غير متكافئ، مع أعداء تاريخيين يملكون من المقدرات والعتاد ما لا تملكه هذه الشعوب! وأية مشاعر من الفرح والمسرة يمكن أن توجد بين اكتظاظ النفوس بمشاعر الحزن والثكل والفقد واليأس؟. وأي حصار اقتصادي جعل من هذه المدن العريقة في التاريخ والخصب والإبداع والصناعة والثراء، مضغة بين أنياب الجوع والفقر والأمراض.
ترى هل تتابع الأمهات في هذه المدن، برامج الطبخ التي يعدها طباخو الفضائيات العربية؟ هل يفطر الصائمون على طلقات مدفع الإفطار، أم طلقات مدافع الأعداء؟ هل يغنون الميجنا في السهرات، أم يداوون انفطار القلوب في الجنازات؟ هل يستيقظ الأطفال على قرع طبل المسحراتي ونداءاته الأليفة، ويتراكضون لمشاهدته أم يستيقظون على انفجار القذائف في أسرَّتهم وأجسادهم ؟
هل يعدون الأيام لانتظار العيد، أم يعدون الثواني لانتظار الموت؟ هل ينتظرون مدفع الإفطار أم مدافع القصف؟
فأهلاً يا رمضان أهلاً.. ولو أنك لم تطأ سهلاً!