تصلني أحياناً رسائل خاصة مشبوبة بحب الشعر، وبالرغم من أنها من أناس لا تربطني بهم معرفة شخصية ولم يسبق لي أن التقيت بهم، إلا أن العنصر الشعري والعنصر الشخصي في هذه الرسائل، يتداخلان إلى درجة قوية ومحيّرة. وكنت أحمل هذه الرسائل أحياناً على محمل الرمز، وأقبل بالثنائية أو أكثر في مسألة الشعر، فأرى فواصل بين القول والقائل والقارئ. ولكنني صرت اليوم أميل إلى التوحّد في هذا الموضوع.. فالنسب بين الثلاثة قريب، قريب جداً أكثر مما يتوهّم الواهم. حقاً حقاً، لا فاصل بين الشخص ومعناه، بين القصيدة وصاحبها ومحبّها، فمصهر الحب مصهر هائل وقادر على توحيد عجينة المخلوقات التي تركن إليه. وهو قادر إلى درجة إعادة الرمز أو اللغز إلى أصله المحسوس، بحيث يلمسه المحبّ ويشمّه ويراه.. إلى درجة الاستبدال الفعلي للكائنات. أمس جاءني صديق بفكرة مفاجئة. كنت فيما مضى حين نجلس معا، أقرأ في عينيه صمتاً خاصاً أعجز عن تفسيره. وكان يطلب مني أن أسمعه بعض القصائد، فيزداد صمته، ويصبح كبئر، ثم يقول بعد ذلك: تعلم.. أنت ترجمان أشواقي. أمس جاءني صديقي بفكرة مفاجئة. جلس أمامي وظهر أكثر هدوءاً مما قبل. نظر إليَّ وفي عينيه بريق خاص، وقال: سمعتُ أنّ قلبك مريض، فيه صمامات معطوبة، لماذا كتمتَ عني الخبر؟ قلت له: لا أريد أن أزعج أصدقائي بمشاكل جسدي، فهي تهمه وحده، ثم إنه القلب.. قال: هل تأخذ قلبي؟ قلت، كمن اخترقه سلك كهرباء مفاجئ وقد ارفضّ جسدي كله بالعرق: آ... خُذ قلبك؟ قال: نعم. أعطيك قلبي. قلت: آ.. خذ قلبك.. وأنت كيف تعيش؟ قال: أعيش فيك. تلعثمتُ هنا كثيراً، صرت عند النقطة الحرجة، ولكنه أعفاني من الحوار، وقام فأخذ ورقة وقلماً وكتب تعهّداً بما يعرضه عليَّ. قلت له: لا بأس، رضيت. ولكنْ قُمْ معي إلى المستشفى لنسأل الطبيب المختص عن هذه الإمكانية: زرع القلب أو استبداله. قام بهدوء، مشيت إلى جانبه، مشينا معاً. كنت أشعر أنني أمشي به. اكتسبت ونحن في الطريق أحاسيسه كلها، لفَّني صمته وذهوله، توحّدنا، وصلنا إلى عتبة المستشفى. لم ندخل، هو يشدّني إلى الداخل وأنا أشدّه إلى الخارج، أحسست أنّ قلبي في تلك اللحظة قد شُفي تماماً، شُفِيَ إلى درجة أنني أستطيع أن أقدّمه له.