هل كانت خيانة فعلاً؟
الذين قرؤوا شيئاً من الأدب التشيكي تعرفوا بلا شك إلى أسماء كبيرة، مثل فرانز كافكا وميلان كونديرا، وعلى الرغم من اختلاف مسيرة حياتهما إنسانياً ونفسياً وسياسياً، فإن كلا الأديبين يعد علامة فارقة في تاريخ الأدب والرواية، ليس على مستوى التشيك فقط، ولكن على مستوى العالم، إن الذين قرؤوا كافكا وتعلقوا بشخصيته شديدة الانعزال والسوداوية، وجدوا فيه ضالتهم في تفسير القلق الوجودي والتشاؤم الذي يشعرون به حيال ما يحدث لهم وما يحدث في العالم حولهم، حتى أصبح اسم كافكا مرادفاً لتيار التشاؤم واليأس في الأدب والسينما والمسرح والحياة، بمعنى أن الكافكاوية يمكن إطلاقها حيال كل حالات اليأس والسوداوية التي ننظر بها لكل هذا الذي يجري في العالم اليوم من حروب ودمار واقتتال جنوني ولا منطقي!
الذين يريدون أن يتعرفوا إلى عالم كافكا يمكنهم تتبع تفاصيل حياته ومشاعره وأفكاره ونوباته المرضية الجسدية والنفسية من خلال الكتاب الذي أصدره مشروع كلمة بعنوان «يوميات فرانز كافكا» الذي سجل فيه يومياته في الفترة من عام 1910 وحتى عام 1923، وسيجد أن هناك رجلاً قد قام بتحرير اليوميات هو ماكس برود، وقد ورد اسم برود كثيراً في اليوميات على اعتباره ناشراً وصديقاً مقرباً من كافكا، الأكثر من ذلك أن هذا الأخير قد أوصى بجميع رسائله وكتبه لبرود كي يحرقها بعد وفاته، وهذا ما توقف عنده ميلان كونديرا في أحد كتبه المهمة!
عرفت كونديرا كروائي وهو بالمناسبة تشيكي الأصل (تماماً ككافكا وبرود)، لكنه وبعد ما تعرض له سياسياً في بلاده إثر ما عرف بربيع براغ بعد احتلال القوات السوفييتية لبلاده، ترك التشيك واستقر في فرنسا، ثم صار يكتب بالفرنسية لاحقاً، إن أشهر وأجمل ما يمكن اعتباره مدخلاً لأدب وفلسفة وعالم كونديرا، هي روايته الشهيرة «كائن لا تحتمل خفته» التي نقلته للعالمية، وهي رواية إنسانية وفلسفية بامتياز، جاءت بعدها روايته البطء، الضحك والنسيان، المزحة، خيانة الوصايا، فن الرواية و... كثير غيرها.
«خيانة الوصايا» عنوان لافت لا يمكن أن يمر عليه قارئ كتب كونديرا مرور الكرام، لكن الأخطر من العنوان هو دلالته، فكيف يمكن أن تتم خيانة الوصية، ومن هذا الذي تمت خيانة وصيته؟ يقول كونديرا إن كافكا هو الأديب الرقيق والحساس والمرح - وهو نقيض المتداول عن شخصية كافكا - الذي أوصى صديقه المحتال والفاشل والانتهازي ماكس برود، بحرق رسائله حياء وخجلاً وربما خوفاً من النقد والنقاد، برود هذا هو الذي زور حقيقة شخصية كافكا جاعلاً منها هذه الشخصية المتشائمة اليائسة سوداوية النظرة، وقد قدمها للعالم من خلال تحرير وتحقيق الرسائل الذي ظلت تحت يده وظل يعتاش من ورائها لسببين، عزلة كافكا عن الوسط الأدبي لإصابته بالسل، وتناقضات برود المرضية، هذا ما يكشفه كونديرا في كتابه خيانة الوصايا!!
تبدو فكرة خيانة وصية كافكا وتلاعب صديقه برود بملامح شخصيته فكرة غريبة وخطيرة جداً، وهي أقرب لتراجيديا الأعمال السينمائية التي تصب في خانة السوداوية ولكنها السوطاوية الحياتية هذه المرة، خاصة ونحن حيال أديب شفاف وعبقري وحقيقي قد أصيب بالسل ومات باكراً مخلفاً تراثاً أدبياً عظيماً وفق رؤية معينة، وحيال سؤال أخطر حول ما قام به صديقه ماكس برود، فهل يصح توصيف فعله بالخيانة فعلاً؟ ربما من ناحية التلاعب بالملامح النفسية لشخصية كافكا، ولكن من ناحية الاحتفاظ بالرسائل والأعمال الأدبية، فهل يصح اعتبارها خيانة أم تصرفاً أدبياً سليماً؟ وهل تتجزأ الخيانة!
ayya-222@hotmail.com