لا تقتصر الغربة على وجودك في مكان يبعد آلاف الأميال عن وطنك، عن ذاكرتك، لحظات أحلامك، عن تفاصيل طفولتك، أقاربك، معارفك وربما حبك، فالغربة يمكن أن تكون في وطنك ووسط كل تفاصيل طفولتك وصباك.
الغربة داخل المكان يعرفها ويعايشها الكثير من أولئك الذين تجاوزت انتباهاتهم للوجود واقع العامة، حيث أفق الرؤى بعيداً خارج الأساسات الثابتة والمكبلة للأسئلة والسباحة في بحر الاكتشافات الساحر، وكذلك تعرفها تلك الجماعات التي تعيش التهميش والإقصاء في بلدانها.
في روايته «الجهل» يقبض التشيكي «ميلان كونديرا» على قسوة تلك الغربة عبر أبطال روايته التي تتناول الغربة في شقها المكاني والزماني أي غربة (إيرينا) التي تهرب من بلدها التشيك إلى فرنسا كلاجئة، بسبب دخول الشيوعية إلى بلدها، حيث تعيش هناك لفترة طويلة، تندمج خلالها في المجتمع الفرنسي، وتحظى بالترحيب وتعيش تفاصيل الحياة، إلى حد أن ثقافتها الحياتية تطبعت بطابع إيقاع باريس كمدينة آسرة متدفقة بالأمل، الحب، وبالحياة.
لكن مع انحسار مسببات اللجوء، فمن المنطقي أن تكون العودة إلى الوطن من أولى الأولويات لدى اللاجئ، حيث الكثير من تفاصيل حياته توجد هناك في بلده بين الشوارع والأزقة والبيوت وكل معالم الحياة، إلا أن «كونديرا» يرى الوضع عكس ذلك تماماً، ففي اللحظة التي توقعت صديقة البطلة الفرنسية فرحة صديقتها بعودة بلادها إلى سابق عهدها وانتهاء مسببات اللجوء، أن تمتلئ «إيرينا» بالفرح ويرتفع شغفها بالعودة، إلا أن ذلك لم يحدث، واستهجنت صديقتها هذا السلوك منها، حيث علاقتهم بها تقوم على التعاطف بالدرجة الأولى، التعاطف نتاج الهروب من بلدها الذي انتفت منه الآن كل مسبباته، وكان متوقعاً منها الفرح ورغبتها العميقة بالعودة.
لكن بعد أن تحتمت عودة «إيرينا» إلى مدينتها براغ وجدت نفسها في متاهة غربة جديدة، غربة في وطنها، حيث لم يعد يربطها بوطنها سوى الماضي الذي تجاوزه أصدقاؤها الذين لم يغادروا وطنهم، متاهة تمثلت في ضياع الحوار المشترك وعدم اكتراث الأصدقاء بما عايشته من حياة في باريس، لم يعد الأصدقاء يرغبون في الحديث عن تجربتها في الغربة، حيث الحاضر الخاص بهم هو مصدر انشغالهم.
ملايين من البشر تتوه منهم بوصلة الحياة، ويضيعون في المتاهة القاسية، متاهة الغربة بعيدا عن الأوطان أو في الأوطان الجديدة، حيث ضاعت المرساة في توالي الأيام، ضياع يشعر به أولئك الذين جربوا هذا الفقدان لتفاصيل الحياة وطمأنينتها، وباتوا لا يعرفون هل هم هنا أو هناك.. ذلك ما يلتقطه «كونديرا» ويبثه عبر «الجهل».