غالباً ما تصيبني المدن بدوارها، فللمدن كما للنساء، عشاقها وأسرارها، مجانينها وصرعاها.. بل المدن نساء كاملات الجاذبية، كاملات الأقدار والوضوح والغموض، ولا يعرف رجل من أين يصاب بهن: أمِن هذه التلة أم من تلك العين؟ ومن هذه الشرفة أم من ذاك الوجه؟ ومن هذا الشارع أم من ذاك المقهى؟ ومن هذا الحَجَر أم من ذاك الطلل الواقف في مهب رياح الأبدية. «تنبو الحوادث عنهُ وهو ملمومُ...» وعمّان مدينة طالما أصابتني بدوارها، إنها على امتداد عشرين عاماً، تدعوني كل عام إليها وألبي.. وصار ما بي نحوها يشبه الإدمان. ولو جئت أعد على أصابعي لماذا أحب هذه المدينة، لدارت الدورة على أصابعي عشرين مرة، وما انتهى العد.. ذلك أن هذه المدينة الجميلة، يتناثر جسدها على سبعة تلال، وتنعكس عليها سبع سماوات زرقاء، وتحدق عيناها في سبع من بوابات البادية، فعمّان الممتدة من قصر «رغدان» إلى آخر عشيات «عِرار»، ومن التلال إلى آخر أصابع الشعراء، تجمع ما كان أشار إليه ابن خلدون في مقدمته عن العمران البشري والبداوة معاً: فهي من العمران البشري بمكان لابد له من سياسة ينتظم بها أمره، إنها مدينة العمران والفنون والصروح والأنظمة، مدينة المسرح والتشكيل والغناء والعمارة والشعر، فيها تتردد أصداء جرش الماضي والحاضر، وتحلّق في سمائها طيوف البتراء. وتلامس قلبها أقدام المسيح وهو يمشي خفيفاً على الماء.. ولكنها أيضاً تنطوي على أجمل ما في البداوة من صفات.. فهي أقرب إلى الخير ولا يزال في نفوس أهلها نزع من الفطرة الأولى متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من الشمائل، لقد كانت في يوم من أيام النكبات العربية مدينة المدن، من أعماق فلسطين إلى بيروت فبغداد.. لأن أهلها لم يلقوا جنوبهم كلياً على مهاد الراحة والدعة. ثم هي كما رسمها شاعرها عبدالله رضوان: «عمّان عيني / هي عيني الحياة البهية/ وميم الكلام الجميل على آخر السطر / ألف كما عاشت / يلملم ما ضاع من شهرة الوصل / ونون كنوّارة الكون / جنة جمعت روح عشاقها / ألفة العاشقين».