كان ظلام الصيف على أشده، غليظاً، حاراً لزجاً معبأ بغبار كثيف، وكانت مكيفات الهواء تصارع تلك القسوة المتعددة الوجوه والتجليات... في تلك الظلمة المحتشدة، استيقظ الرجل، وكالسائرين في نومهم، فتح عينيّه الملبَّدتين بطحالب النوم وغَبش الأحلام، مضى من غرفة النوم عبر الممر الصغير الموصل إلى الصالة. وفي الصالة التي اعتاد الجلوس فيها للقراءة أو مشاهدة التلفزيون، رأى ما يشبهها، رأى صالة غسقيّة محتشدة بالموتى والمجانين وفي الطرف الآخر تتمدد على أرضيتها فتاة، تبدو بين النوم واليقظة، تتبادل حديثاً خافتاً مع قرينة غير مرئية، انتبهت الفتاة إلى وجوده ولم تنتبه، إذ أنها استمرت في الحديث من غير تلك المفاجأة التي تصل حدّ الصدمة أحياناً في وجود شخص غريب في المنزل. فجأة ينبثق رجل ذو لحية متوسطة مشذبة جيداً وبمظهر نظيف لامع. يسأله رجل الأحلام أنه أضاع بيته ووجد نفسه فجأة في هذا المنزل الذي يبدو أنه منزل آخر تماماً.. في هذه اللحظة، انفجرت صور وأشباح لمنازل كثيرة في أماكن مختلفة، وأحس الرجل الغريب بثقل اللحظة الذي كاد أن يتحول إلى كابوس صاعق يقضي بصرخته الأخيرة، على توالي هذه الهنيهات السادرة في غَبَش التيه الحلمي والضياع.. يظهر شاب يولي أهمية لحديث الرجل الغريب، حيث يقوده إلى خارج المنزل.. فجأة يجد نفسه في واحات رحبة خضراء شديدة الخضرة، يخترق ضفتيها نهر يشبه نهر النيل ربما، من ناحية «المعادي» صُعداً أو نهر (بردى) منحدراً من أعالي الأزمنة والشغاف، حيث البدايات الصافية تواصل مسْراها، قبل أن تتحول الضفاف والأنهار والمدن إلى مرتع نفايات وحطام. تهدأ روحه ويغطس في بحيرات صافية تتوزع على حواف النهر الكبير.. ورأى في البعيد الفتاة النائمة تسبح مع قرينتها التي أضحت مرئية بسطوع الجسد المتلألئ في أفق المياه المتلاطمة بالعذوبة والجمال.. يأخذ في تأمل شفافية المياه وانسيابها الملائكي بين تلك الضفاف الضاربة في زرقة الأبد، ويحّس بتلك السكينة الروحية التي طالما بحث عنها وظلت مقيمة في أحلامه وخيالاته إقامة النور في الحدَقة المظلمة. أحسّ في الصباح بطعم الجمال لأحلام البارحة، الذي أخذ يرتشفه كلعاب القبلة التي يتمنى العاشق أن لا ينفد طعمها مع تصرّم اللحظات. أحس بذلك الجمال الذي سيواجه به القائلة والوجوه ذات الأقنعة المعدنيّة الثقيلة، والأيام.