هذا زمن يرحل دون تخيّل، أو إدراك للتفاصيل الصغيرة، يرحل أبعد من الحياة، لتحط عصافير الفجر من سفرها، فتنقر النافذة بحثاً عن وجهك الجميل، تود أن تدس منقارها الصغير بين نتف الخبز، ترتشف صحوها من إناء الماء، وربما لازالت تتخيل إشراقتك قبيل الشمس، لتفتحي لها نافذة الروح، وتهمسي لملاذها وهي ترفرف، ولصغارها أن تبقى، لتسد رمق الجوع، أو تراها تفزع من رحيلك الأبدي، فتقرأ رسالة على النافذة، تقول: ما أوصدها إلا أمر جلل.. وربما تشكر بلغة الدعاء، فلا تنسى ذاكرتها الهشة حين كنت تعتنين بها، وتتركينها تبحث عن حريتها بسلام.
ليست وحدها تحط على ومضات وجودك، فأحاديثك المشبعة بالابتسامات تحف الأمكنة، وتسأل لماذا فضلتِ الرحيل بين مواسم المطر، وبالأمس كنا معاً في غربة المدن، كنا في ضوضائها المسكونة بشيء من الحلم، بشيء من الأمل، كان يفتش في حزننا صوت الغرباء، لم يجدوا سوى صوت الدعاء لك يترنم باسمك ويرشق وردة إليك تسكنها الألوان.
نعود من مواعيد الترحال من شدة الألم، يعيننا الدعاء، فيزهر المدى والسفر، ويعصف الشقاء، تركنا الدواء المنسكب قبل أن ينادينا الترحال مع المطر، يزخر برذاذ كدمع يجهر بالبكاء، فلماذا تركتِ الغد خلفك، وتركتِ التعب المسكون بالفراغ، والمسلوب من نبض التعب.. كانت نظرتك الخاطفة نحو البعيد والنوافذ المغلقة، هي جسر نحو الوجوه المتألمة حولك، حتى الليل كان مترعا بألم خفي، وكلما حان الوداع جاء الطائر الذي أعجبته نقوش السماء لكنه آثر الرحيل.
تعود مواسم المطر غزيرة الجراح، تومض أسى في القلب، يموج بين فصول الحياة، ودموع المحبين لا تنضب، تسترسل نحو شهر المكارم والقدسية، ورحابة الزائر المنتظر، بين صلواته وقيامه تحضر الحياة في وقار الذكرى، وإشراقات السجود تبعثها الصلوات والقلب الطاهر.. فلماذا ترحلين قبيل اشتياق المعنى الرمضاني وإشراقة الفجر المبتسمة، وصلوات أعياد العتق من النار، وفرح العيد المضيء بوجودك.. لكن ذكرى ابتسامتك هي العيد، معطرة ومباركة ومثمرة.. هي بذرة الخير التي تنشر عطرها في مقامات الوجود.
بأي لذة كتبت الأمواج رسائلها، وبأية حروف حاكوا الضوء والسحر معنى الأمومة بين نشوة الصباح وياسمين المساءات، وبين العصافير المسافرة في اتجاه الحب والقلب حيث ترسم الورود حدائقها.. هناك ترسمين في كل حرف نشيد السماء فتمطر في صفائها حدّ البكاء.