ربي يعافي هذه السواعد النحيلة، وهي تمر بلمسات حانية على أرصفة وارتها العواصف الرملية خلف تراب، وضباب.. سواعد منهمكة منذ الصباحات الباكرة، وحتى أواخر النهار، تنظف وترصف وترتب وتهذب وتنسق ما بعثرته الريح، وعثرته التباريح، وتعدل وترتل بأشواق المكدودين الرابضين دوماً عند الحواف والحارات المتفشية بفضلات من طالت أيديهم بلا مانع ولا رادع ملوثين المكان ببقايا ما زاد عليهم من طعام وأسقام.
ربي يعافي هذه الأجساد السمراء الصامدة صمود الجبال متحدية الصعاب لأجل كسب لقمة العيش أولاً، ولأجل الحفاظ على منجزات وطن أكرمهم ونعمهم، واحترمهم، وقدرهم، وقدم لهم لقمة الحلال وأمن معيشتهم وطمأنهم على أحوال أسرهم ومهد لهم طريقة الحياة، دون حاجة إلى مد الأيدي أو هدر كرامة.. كل هذا يحصل في بلادنا التي فتحت الصدر والقلب، واستقبلت كل من حل على هذه الأرض، ليعمل، ويكد من عرق جبينه، ويطعم أفواه من انتظروه في بلاده، ولكن ما ينغص الحال، ويسقم البال هو عندما ترى شخصاً يفتح نافذة سيارته فيرمي علبة مشروبات فارغة إلى نصفها فترش المكان بما تبقى في جوفها أو عندما يصدمك كائن بشري يقذف بعلبة تحتوي على مخلفات أغذية تاركاً بقاياها تطير في الهواء الطلق، ثم تحط على مقربة من رصيف طريق، ويمضي بخيلاء مفتخراً بما يفعل، متمادياً بما أبداه من زلل.. تشعر بالضجر، فتقول كيف هانت عليه الأرض وسمح له ضميره بأن يرتكب هذا الخطأ الذريع الذي لا يبرره إلا سوء الخلق وضعف التربية، واللامبالاة والاتكالية.. الاتكالية التي جعلتنا نتهاون عن ثوابت ونتخلى عن قيم ومبادئ ونشيح بوجوم عن أخلاق المواطنة الحقة، ما جعل الهوية تصرخ وا ويلاه، كيف تستقر الحال والمآل مهدد بضعف الإرادة والاعتماد على الآخر حتى في أبسط الأمور.. والهوية وليدة ثقافة، وثقافة الاتكالية مرض عضال يصيب الهوية الوطنية في مقتل، ولا علاج له غير التحرر من ثقافة اللامبالاة، والتخلص من التورم الذاتي الذي بدوره أدى إلى تهتك في الشخصية، وندوب في الذات، وكدمات في السلوك لا يمكن علاجها بحجامة ثقافية مغايرة لما هو سائد من تقليد راهن.
الاتكالية، داء ووباء انتقل إلى روح الإنسان في بلادنا جراء الظروف المعيشية والتغيرات الاقتصادية ولا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بتكثيف إعلامي وتربوي تشترك فيه جهات متعددة بدءاً من الإعلام ثم التربية والتعليم والأندية والمؤسسات الثقافية معتمدة جميعها على منهج علمي وأجندة واضحة بوصلتها الهوية الوطنية، والتحرك اليوم أفضل من الغد، والغفلة عن هذه القضية الجوهرية قد تصعب من مهمة علاج المعضلة.


marafea@emi.ae