المال.... نعم، إنه المال، هو الذي يحيرّني، ويخيرّني بين عدة احتمالات وعدة أفكار، وعدة مصائر، ويجعلني أقف أمام وجهيه وقفة الراغب فيه والراغب عنه، ووقفة الراحل إليه والهارب منه، فهو الممدوح والمذموم في وقت واحد، وهو الصديق والعدوّ.. وعلى اسمه قرأت كتابين من أكثر كتب التاريخ قيمة وإمتاعاً: أحدهما قديم في الأدب والاجتماع والأخلاق هو كتاب «البخلاء» لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، والآخر حديث ومعاصر في العلم والفكر الاقتصادي والسياسي لكارل ماركس وهو كتاب «رأس المال».. وإذا كان ماركس قد وضع إصبعه في «رأس المال»، على أسس تطور المجتمعات من خلال الصراع الطبقي، وعلى صيرورة الرأسمالية، بما هي أساس تاريخي للامبريالية السياسية، التي آلت أخيراً إلى الرأسمالية المتوحشة، وبدأت إمارات وعلامات انهيارها بسبب هذه الوحشية بالذات.. فإن الجاحظ في البخلاء، بأسلوبه الأدبي الجميل الأصيل الساخر الناقد والحكائي، جعلنا نسأل في نهاية كل حكاية من حكايات أصحابه المسجديين، وبخلائه المختارين من أهل الجمع والمنع: أهو يذم المال أم يمدحه؟ أهو يذم البخلاء لمنعهم إعطاء شيء مما يملكون أم يمتدحهم باعتبارهم حريصين مقتصدين أهل رأي وتدبير؟ فهم بمقدار ما هم أهل منع وتقتير، أهل إصلاح وتدبير.. ولهم مجالسهم وحلقاتهم في المسجد، حيث يتداولون في شؤون الإصلاح والتدبير، كما يتداول في أيامنا هذه، أعضاء مؤسسة مالية، في أفضل السبل لإصلاحها وإنجاحها. وهو إذ يسوق الحكايات والنوادر والأشعار والمبالغات، فإنما ليقدم لنا أدباً لا تقريراً اقتصادياً عن أحوال مجتمع البخلاء... ومن أجل ما نقله في هذا الباب بعض ما قاله الشعراء في الكسب والإنفاق، ومن أجمل الأجمل قول تميم بن أُبيّ بن مُقبل: «فأَخْلِفْ وأَتْلِفْ إنما المال عارةٌ وكُلْهْ مع الدهرِ الذي هو آكِلُه» ففي البيت دعوة لإخلاف المال وإتلافه. وفيه اعتبار هذا المال (عارة) وهي مؤنث (عار) (وفي تأنيث عار فائدة لغوية جديدة)، وفيه دعوة لأكل المال مع الدهر الآكل الأكبر للمال.