على الصعيد الإنساني، كلما كان الفرد أقل، كلما كان أكثر. الرغبات الكثيرة تجعلك مثل جدول فرت مياهه عن مسارها، وانتشرت على أرض بطحاء، فلا يستفيد منها ضرع، ولا يشرب منها زرع.
عندما تكون رغباتك بمستوى حاجتك، تكون أنت في صحة وعافية، فلا تضخم، ولا تورم، ولا تأزم، ولا تبرم، ولا تثلم. شذب أظافر رغباتك، تصبح أنت بلا نفايات، ولا تدع جيادك تسرج من غير لجام، فقد تطيح بك في الحفر السوداء، وتجعلك آخر الفرسان الذين يصلون إلى الهدف.
اذهب إلى الحياة بالقليل من الرغبات، تجد نفسك مضاءً بالقناعات، تجد نفسك بلا أعباء تجد نفسك أخف من جناح الفراشة.
عندما يثقل قلبك بالرغبات، تصبح أنت مثل عربة مثقلة بأحمال تفوق طاقتها، فتقع، وتهوي في السحيق. ساسة وعباقرة، طفحت عقولهم بالرغبات، فباءت خطواتهم بالفشل، وانتهوا إلى لا شيء.
السعادة تبدأ بانتهاء الرغبات، وتنتهي بطغيانها، وشراستها، وعنفوانها، وتكشير أنيابها.
نابليون العظيم، انتهت رغباته في التوسع على حساب الغير، إلى العزلة في جزيرة نائية، والإسكندر الأكبر أطاحت به الحمى، وانتهى جشعه في احتلال العالم إلى قبر ضيق في بلده مقدونيا.
هتلر الخطيب المفوّه، والعسكري الجامح هزمته لينينغراد لمجرد طموح لم يتواز مع القدرات.
نحن نسعى إلى إشباع الرغبات، وهي كالبحر، مهما بلغ جريان النهر في شرايينه، يبقى مالحاً. نحن نمضي أعمارنا في اللهاث خلف سراب الرغبات، ولا نجني غير الجفاء، والجفاف.
الرغبات مثل الحلم، تبدو واقعية في حياة النائم، ولكنها في نهاية النوم، تتبخر إلى صور فراغية، وبلا معنى.
نحن نرغب لكي نتكثر، ولا نعلم أن كثرتنا هي نهاية رغباتنا، أي أن رغباتنا هي نهاية كثرتنا، لأنه ما من كثرة إلا ويتبعها قلة، وما من قلة إلا ويصاحبها كثرة، هكذا هي الحياة، مبنية على القليل الذي يجعلك في مركز الدائرة، وكلما انتشرت، ابتعدت أكثر عن مركز دائرتك، وكلما ابتعدت، قلّ نورك وشيئاً فشيئاً ينطفئ النور، ويأتي الظلام، وتصبح أنت في العتمة، تصبح أعمى عندها تتعثر خطواتك، وتتبعثر أنت حتى تصل إلى النهايات القصوى في بنائك الشخصي، فتصبح بلا ذات، تصبح منفى الحياة، تصبح في الحياة قشة على ظهر موجة، تأخذك الموجة إلى موجة، وتترامى بين الموجات، إلى أن تقذف على الرمل مثل قوقعة خاوية.